موسكو وبكين بين التاريخ والتحديات المستقبلية.. هل من متغيّر؟
} بتول قصير
تتأرجح العلاقات في البيئة الدولية تبعاً لعنصر المصلحة الذي يضمن قوّتها ومكانتها في المجتمع الدولي. فقد شهدت علاقات الدول في ما بينها اصطفافات وتحالفات في مختلف الميادين، إذ أثبتت المعطيات عبر التاريخ أن لا دولة يمكنها الثبات في النظام الدولي العالمي بمفردها، خاصة إذا كانت في خضمّ مواجهة قطب شرس ذي نفوذ. وقد شكلت الصين وروسيا تحالفاً إقليمياً متيناً بوجه الأحادية القطبية المتمثلة بالولايات المتحدة الأميركية، وتميّزت برابطة من التفاهم الاستراتيجي ضمن محدّدات جيو ـ سياسية وإقليمية ودولية جعلت منهما كابوساً يرهق كاهل الإدارة الأميركية وتسعى دائماً لخوض معارك لكسره.
حازت العلاقات الروسية ـ الصينية على اهتمام الباحثين المهتمّين بمراقبة ومتابعة سياسات الدول المناهضة لواشنطن والساعية لإنهاء هيمنتها على العالم. ومع تتبّع تاريخ العلاقات الروسية ـ الصينية نلاحظ أنّ ما يجمعهما هو تاريخ وتشابه أنظمة. فالدولتان مصنفتان كقوى عظمى على مستوى العالم تمتلكان جيوشاً ضخمة وهما دائمتا العضوية في مجلس الأمن بالإضافة الى العامل الأهمّ وهو أنهما دولتان نوويتان.
تعود العلاقات الروسية ـ الصينية الى عشرينيات القرن الماضي، إذ شهدت تطوراً تصاعدياً على أكثر من مستوى، الى أن دبّ الخلاف بينهما على خلفية الرؤية الايديولوجية والتي بدأت عندما انقسم الحزب الشيوعي الصيني بين اتجاهين، يسعى أحدهما للانصياع بشكل تامّ لمطالب الاتحاد السوفياتي، بينما يرى الآخر أنّ الضرورة تكمن في ما يتوافق والمصالح الصينية والذي كان يتزعّمه ماو تسي تونغ، إذ ارتفعت حدة التوترات عندما رفض الأخير طلب السوفيات استخدام قوات الحزب الشيوعي لاستدراج القوات اليابانية نحو الصين كمساندة للقوات السوفياتية ابان الحرب العالمية الثانية (1940 ـ 1941).
هذا الانقسام لم يولد عداءً بين الطرفين، بل على العكس ظهرت ضرورة للتقارب مع الاتحاد السوفياتي لمواجهة الولايات المتحدة عام 1949 على اثر سعي الأخيرة للتدخل في الشؤون الداخلية الصينية، الأمر الذي أنتج تحالفاً استراتيجياً بين بكين وموسكو عام 1950. الا انّ ثمة تطوراً حدث مع تولي (بوريس يلتسين) الحكم في روسيا والذي أعرب عن توجهه للتقارب مع الغرب، محافظاً في الوقت عينه على التوازن مع بكين مشدّداً على أهمية التوازن في السياسة الخارجية الروسية. ومع وصول الرئيس فلاديمير بوتين الى الحكم، عادت العلاقات بين بكين وموسكو لتنتعش من جديد واتخذت منحى أكثر التحاماً وقوة، عبّرت عن قناعة راسخة بأنّ الدولتين في ذات الخندق في مواجهة الهيمنة الأميركية واستفرادها بالعالم.
والملاحظ أنّ العلاقات الثنائية بين البلدين انطلقت من محدّدات سياسية تتجلى بضرورة تأسيس نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب وإنهاء حقبة الأحادية القطبية التي تفرّدت بها الولايات المتحدة الأميركية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، لما تشكله من خطر على الدولتين ونفوذهما. وسعى كلّ من موسكو وبكين لصدّ التدخلات الأميركية في الشؤون الداخلية للدول ومحاولاتها الحثيثة لإشعال الحروب الداخلية المتمثلة بالنزاعات الانفصالية. بالضافة الى حاجة روسيا الى مساندة الصين في موقفها ضدّ توسع حلف الناتو، في مقابل حاجة بكين لتأييد موسكو تجاه موقفها من تايوان والتي اعتبرتها جزءاً لا يمكن تجزئته من الوطن الصيني، فالتشابه بين قضيتي تايوان وأوكرانيا كان المحفز الرئيسي للتقارب بينهما، فموسكو برؤيتها الايديولوجية ترى الأراضي الأوكرانية جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الروسية لوحدة التاريخ والهوية، وموقعاً استراتيجياً لأمنها القومي لا يمكن التنازل عنه. كذلك ترى بكين أنّ تايوان تمثل جزءاً من الأراضي الصينية، كما تنادي دومًا بوحدة أراضيها التي تضمّ العديد من العرقيات والهويات المتباينة.
وقد تجلت مظاهر التوافق المعلنة بين روسيا والصين في عدة مواقف كان أبرزها، موقفهما المعارض للغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001 وغزو العراق عام 2003.
وشكلت الأزمة الأوكرانية الدور الأبرز والأهمّ في تقوية العلاقات الثنائية، بحيث عارضت الصين العقوبات المفروضة على روسيا واتجاه موسكو لتقوية اقتصادها عبر فتح أسواق تجارية أكثر معها وبالتالي تستفيد بكين من هذا التقارب من خلال توسيع نفوذها داخل الأسواق التجارية الروسية والسيطرة على مصادر الطاقة ومنها الغاز الطبيعي المحرومة منه أوروبا بعد إغلاق خط انابيب النفط نورستريم1 شريان الحياة الأول بالنسبة للقارة العجوز، كما انّ الصين استفادت من الأزمة الأوكرانية عبر تحييد الانتباه عن أنشطتها في بحر الصين الجنوبي.
وأخيراً، إنّ العلاقات الروسية ـ الصينية ظاهرها متين وباطنها يقوم على المصالح المشتركة والمنفعة المتبادلة، إلا أنّ الخلافات الثانوية التي تحدث بين البلدين، تتلاشى أمام التهديد الأميركي لكليهما. وبصفة عامة لا يمكن فصل العلاقات الروسية ـ الصينية عبر التاريخ الذي يجمعها عن الأحوال السائدة في النسق الدولي والذي يتأرجح تارةً ويثبت تارة أخرى وفقاً للمرحلة…