نيبال بين الحياة والموت: ابنة الـ23 عاماً مَن ينقذها؟
فاطمة عبدالله
ليس هذا مقالاً من الرغبة في الندب والأسى. إرادة الشابة نيبال صادق خير الدين تتغلّب على الشدّة وتُبعِد من النفس نزعات التلوُّع. شابةٌ في عمر وردٍ يُزهِر للتوّ فيُجمِّل الحديقة. 23 عاماً أمضَتْها تعاني مرضاً تأبى أن يدمّرها كما دمَّر رئتيها. تقهَرُه ببسمة. بالتحمُّل. والسخرية مهما قسا. في مستشفى «أوتيل ديو دو فرانس»، تنام نيبال نومَ أميرةٍ تنتظر قبلة. قبلة أمير أو قدر. تشاء أن تسدل شعرها على الشرشف الأبيض، فيمرُّ أميرها أو قَدَرها ويُفتَن بجمالها ثم يخفّف الوجع. وجعٌ ندركُ انّه لا يُحتَمل. «سكاكين في البطن والظهر، وإبرٌ في العظم». تفرض نيبال عدم جرِّ شعور الآخر نحو الشفقة. تفوق السويّ صحياً طاقةً وأملاً، وتوشك أن تجترح في الحلم جناحين ينتشلانها نحو الفضاء الأوسع. هناك حيث ملاكٌ يحبُّ ملاكاً، وغيمةٌ تمازح غيمة. حيث قوس القزح بطعم الشوكولا والمطر بروعة الولادة المتجدّدة.
لن يعني كثيرين اسم هذا المرض: cystic fibrosis. ترجمته العربية تزيده صعوبة: التليّف الكيسي الرئوي. مرضٌ وراثي يضرب الرئتين ويفتّتهما حدّ الاهتراء، حائلاً دون التنفّس والقيام بحركة. كم مِن أطفالٍ ماتوا اختناقاً، فَتَك بهم حتى آخر نَفَس. نشأت نيبال تحاول بأنفاسها الضئيلة ألا يخنقها. أُخبرها أنها محظوظة بإرادةٍ تملكها، فعادة المرء كلما استعصى عليه المرض أن يمقت الحياة ويستسهل بالموت خذلان الأحبة. أنّى لكِ يا نيبال تعلُّم كلّ هذا الفرح؟ أنّى للجسد الموجوع أن يمتهن خُطى الجبابرة؟ تضحك. إنّها على الأرجح لا تهوى النكد. تتقلّب، فتتألم. كأنّه سكينٌ ينخر روحها. وأنياب مسمّمة تقتلع الأمل. أسألها ألا تُتعب النفس بما لا قدرة لها عليه. تكفيني عزيمتها للكتابة. ويكفيني بالكلمة أن أقول لها كم أحببتُها. تستريح وتتابع: «حرمني المرض كلّ لذّة. إنني منذ الصغر ممنوعة من متعة الأطعمة. كنتُ في المدرسة أحسدُ أصدقائي على كيس تشيبس أو قطعة شوكولا. وعلى السوسيت أيضاً. فُرِضَ عليّ التأقلم مع مرضٍ يفوقني حجماً. ومع كمياتٍ هائلة من الأدوية. طالما سمعتُ أصدقائي يتباهون: «البابا جَبْلي لعبة». أمضى أبي سنواتٍ يكدُّ ويتعب من أجل أن يحضر إليّ الدواء الباهظ. «عايشين لنجيب علبة دوا». أخافُ أن أختنق ليلاً وألتحق بمن اختنقوا. الدواء قبل السوسيت واللعبة. وقبل أيّ شيء آخر. راح جسدي مع الوقت يتكيّف مع دوائه. بات المسكِّن لا يعمل. يهدّئ الروع قليلاً، ثم عليّ إكثار التحمُّل، فأتحمَّل. الى أن بلغتُ المفترق وبتُّ بين الحياة والموت أترقَّب. أنا انتظر معجزة».
نيبال الطير والحلم الذي سيتحقق
أخجلُ من سؤالٍ ألحّ فجأة حول وصف الألم. ألتفُّ حوله وأباغت: «أدركُ أنكِ تتألمين جداً. أستطيعُ أن أشعر بذلك. إننا لحظةُ اشتداد الحرّ نوشك على الاختناق، فنستحضر الجحيم ولا نقبل بأوصافٍ أقلّ. ما الحال مع رئتين لا تعملان، يُستعاض عنهما بجهاز بات هو النَفَس؟» يا للقسوة أن تسمع شابةً تختزل أوجاعها بعبارة «حياتي واقفة». ثم تفسِّر: «يعني ما فيّ أعمل شي». تغصّ لوهلة. في المرء قوى تخور مهما تجبّر، ونيبال تتقن كيف تتماسك وتتفوّق على مرضها. كأنها تقول: انظرْ يا مرض كم إنني قوية. انظرْ، فأنا لا أخشاكَ. سنوات أمضيتُها وأنتَ تغلقُ كلَّ بابٍ أفتحه. قضيتَ على رئتي. تركتهما تلتهبان حدّ التفتُّت. أنا الآن بلا رئتين يا مرض. أنازع. كلّ ليلةٍ أتساءل: ماذا لو متُّ اختناقاً؟ يا مرض لقد حرمتني دراستي. جعلتَ المستشفى منزلي. وحرمتني السباحة والسهر. لكنّني أقوى مما يحلو لكَ أن تتصوَّر. أتسمَع؟ أنا أقوى منك. سأقهقه عالياً حين أرديكَ يوماً. وسأعيشُ طويلاً، وأتنفَّس كما لم يحدث مذ كنتُ طفلةً. سأتنفَّسُ من غير آلات. وأركضُ من غير تعب. سأحلّقُ يا مرض كفراشات الربيع. وأبني للعصافير عشاً في رئتَيْ شجرة. سأكون نيبال الطير. نيبال النسمة. والحلم الذي يتحقق.
جراحةٌ تتطلّب 300 ألف أورو تنقذ نيبال من وجعٍ يدمّر حياتها مهما كابدت لتظهر أقوى. تعرض «أل بي سي آي»، ليلة الجمعة العظيمة 3 نيسان ، حلقة جمع تبرّعات تيليتون ، كأمل نيبال في النجاة. وحده المبلغ، إنْ تأمّن، يتيح السفر الى فرنسا لإجراء جراحة. مؤلمٌ أنّ لبنان غير مجهَّزٍ لإنقاذ حالاتٍ مشابهة، ومؤلمٌ أكثر أن يمسك المال مصير البشر. تبلّغت العائلة مواقفة أحد المستشفيات الفرنسية على إجراء جراحةٍ تضمن انتقال رئتين من جسدٍ فَقَد الحياة، فوَهَبَهما، من حيث لا يدري، الى جسدها. أردنا كلماتٍ نداءً لا تُغلِّب اليأس على الأمل. أردناها كنيبال، تحبس الدمع وتضحك. يا صغيرتي، فكّري بازدحام الأحلام بعد الشفاء. بماذا تحلمين؟ «أن أرتدي الأبيض وأتزوّج». أميركِ ينتظركِ وستكونين أجمل عروس.
موقع جريدة «النهار»
تبث المؤسسة اللبنانية للإرسال يوم غد الجمعة بين الساعة الخامسة والنصف والثامنة مساء، حلقة جمع تبرّعات تيليتون بعنوان «من القلب… معاً من أجل نيبال».