تيريز الهلسة: امرأة مقاومة من بلادي

نصّار إبراهيم

في لحظة ما يفاجئك صديق بسؤال مفاجئ له طعم الجمال، هذا ما كان من الصديق علاء سهيل قسوس، عندما سألني: هل تعرف تيريز هلسة؟ إنها امرأة رائعة، ومناضلة عنيدة، ثم أعاد السؤال: هل تعرف أنتي تيريز هلسة؟ قال ذلك بلهجته الضاحكة والعفوية.

تيريز هلسة! طبعا أعرف الاسم، لكنني بصراحة لا أعرف تفاصيل تجربة هذه المرأة، وفي سياق الحوار لم أنتبه إلى صلة القرابة بين علاء قسوس والسيدة تيريز هلسة، فأنا لست من نسَّابي العرب، والأهم أنني لم أنتبه إلى القاسم المشترك الأعظم بينهما:الكرك وحمود.

حينها توقفت، ثم بحثت وقرأت واستمعت وتأملت، فوجدت نفسي أمام قامة بعلوّ قامة الوطن. قامة امرأة بهية من بلادي، تستحق الانحناء لها احتراماً.

تلك هي المناضلة تيريز اسحق سلمان عودة الهلسة، فتذكروا الاسم كاملاً، ولا تنسوه.

لم تكن الصبية تيريز الهلسة قد تجاوزت السابعة عشر من عمرها، عندما نهضت ذات صباح في عكا الحزينة والمحتلة، كعصفور الشمس لتحلق وراء أحلامها وأمنياتها، مضت حيث شعلة المقاومة، كانت فتاة في عمر الورد. سارت بين الجبال وفي الوديان يومين وثلاث ليال، فأي قوة دافعة تلك التي كانت تسكن روح تلك الطفلة التي مضت من عكا، شمالاً نحو لبنان، وفي قلبها وعينيها كرامة أمة مجروحة ووطن جريح.

تيريز الراسخة في المقاومة، هي امرأة الوضوح الحاسم، والعفوية الصارمة، والانتماء العميق، الذي لا يعرف التردّد، إلى الذات القومية، تنظر في العينين مباشرة وتقدم نفسها بلا تردّد أو التباس: «أنا مناضلة عربية أردنية مسيحية فلسطينية المولد والمنشأ». إذن أنت يا تريز كلّ شيء، لقد قدمت ذاتك بأروع وأجمل ما يكون، عربية أردنية مسيحية فلسطينية، فماذا نريد منك أكثر من ذلك؟

هي امرأة المقاومة والخيارات الصعبة والحياة، هي ابنة جيل حمل فكرة الحرية واقتحم بها السماء، لم تكن تقامر بل كانت تختار، رسمت قدرها وحدّدت مصيرها ومضت، هي لم تذهب نحو الموت، بل مشت في دروب المقاومة من أجل الحرية والحياة، لهذا فهي تؤكد دائماً وتصرّ على لازمتها الثابتة: «لسنا طلاب موت ، بل طلاب مقاومة، فنحن نحب الحياة أكثر، وهدفنا هو نجاح المقاومة». تلك هي فلسفة المقاوم، لأنه في الأصل ابن الحياة والحرية والكرامة والأحلام الكبرى.

ولأنها هكذا فإنّ أبناءها: سلمان واسحق ونادية فخورون بها وبعنفوانها حتى الحدّ الأقصى، كيف لا وهم أبناء شرف المقاومة الرفيع، لامرأة وقفت بكلّ جلالها فتجاوزت بقامتها إسفاف الثقافة البائسة التي تحاول حبس المرأة العربية في قيود العار والتخلف والدونية، كيف لا وهم أبناء المناضل العريق حلمي الهلسة ابن معتقل الجفر الصحراوي، أليس هو ورفاقه أحد خوافي عبد الرحمن منيف في روايته الشهيرة «الآن هنا، أو شرق المتوسط مرة أخرى».

إذن، لم تأت تيريز من الفراغ، ولم تذهب نحو الفراغ، بل هي شجرة السياقات، فجذورها تذهب عميقاً في الأرض والوعي والذاكرة، تمتد إلى ذرى الأصالة والعنفوان، جذور ارتوت من مياه جبال الكرك وصهيل العزة على هضاب «حمود» التي تعانق السماء.

في الثلاثينات من القرن الماضي، يوم لم يكن لنا سوى وطن واحد وأرض واحدة، انطلق من مؤاب شاب أردني تدفعه الأحلام وروح الشباب، كان اسمه اسحق سلمان عودة الهلسة ، والد تيريز. مضى حالماً على دروب ذات الوطن من الكرك إلى عكا، وهناك في عكا التقت «حمود» الأردنية بشقها الآخر»الرامة» الفلسطينية، التقى اسحق سلمان بشقّ عمره الآخر، نادية يوسف أسعد حنا، المرأة الفلسطينية الجليلية من «الرامة»، فبدأت الحياة وتكوّن المصير، ومع الحياة نما الوعي وتعربش على أسوار عكا التي لا تهاب البحر.

تيريز هلسة هي بذرة التكوين الطبيعي للواقع والأرض والجغرافيا والانتماء، هي نتاج التقاطعات المدهشة للزمان والمكان والوعي والذاكرة ووحدة الناس والأقدار.

«لا يوجد أجمل من عكا، عكا جميلة جداً جداً، شاطىء عكا رائع، وبحرها يحتضن خيراً وفيراً من السمك، ولعكا سور عنيد لم يستطع نابليون أن يقتحمه أبداً. «لو بتخاف عكا من هدير البحر ما سكنت على الشط»، تهمس تيريز، وهي ترسل عينيها نحو الأفق.

نعم أيتها المناضلة العنيدة، لو أنّ عكا تخاف البحر لما ساكَنَت الشط، هي عكا المدينة الراقصة مع أمواج البحر منذ الأزل، ترسل روحها سلاماً لتعانق ذرى شقيقتها الكرك الأبية وهي تتماوج كالسراب في مدى الشرق، هناك تعاود الالتقاء بجذورها وناسها، فتخبرهم عن عكا الفلسطينية التي لا تخاف البحر.

«عندما كان والدي ينجح في تجديد جواز سفره الأردني خفية، كان يحتفل وكأنه حصل على عمر جديد، كان يضع الجواز على كرسي أمامه ويحتفل»، كان على الأردني الكركي ابن حمود اسحق سلمان الهلسة أن يحتفل، لأنّ الجواز كان بمثابة رمز ودلالة الانتماء والرفض العميق لواقع الاحتلال المؤلم. كان تعبيراً عن التمرد، فكان والد تيريز من خلال تلك الطقوس يعيد تأكيد ذاته وجذوره، فهو الفلسطيني ـ الأردني، أو الأردني ـ الفلسطيني، لا فرق، وفي النهاية هو العربي الحالم بوطن يمتد ويمتد، من أقصى الأرض العربية إلى أقصاها.

أيتها المناضلة العنيدة من وطني، هكذا يكون الانتماء والوفاء، واضح وحاسم، لا يقبل العبث والخفة،

عكا وفلسطين خافيتا الطفولة والوعي، هناك ولدت ونمت ذاكرة تيريز. «ما عمرنا حسينا في عكا إنو هادا مسلم وهادا مسيحي، ما عمرو واحد سألني إنت مسلمة أو مسيحية، هذه بدعة وموضة جديدة، وحتى صديق العائلة توفيق زياد، المناضل العربي الأممي، لم أعرف أنه مسلم إلا قبل أربع سنوات».

معك كلّ الحق أيتها المناضلة تيريز الهلسة في الغضب والألم والاستهجان. فمن يغذي هذا البؤس معروف أيتها العزيزة، فهو يزرع تلك الأسئلة المتوحشة في عقول أطفالنا ووعينا الجمعي لكي يجردنا من ذاتنا وهويتنا وحضارتنا وتاريخنا، يريدنا أن نكون مجرد أفراد وقبائل وعصابات تفني بعضها بعضاً، ونجح في ذلك إلى حدّ بعيد، لكنّ روح الأمة العميقة ستنهض وتقاوم وتردّ.

ماذا أقول لك في هذه اللحظة أيتها السنديانة الأردنية الفلسطينية العربية، حيث تعوي من حولنا وفي داخلنا رياح التعصب والطائفية والموت الذي لا يبقي ولايذر؟ خطاب مقيت ومهين يفجعنا بأجمل ما فينا، لقد كانت فجيعتك وفجيعتنا عميقة، لأنّ ذاكرتك حادة ورهيفة، ذاكرة لا تتذكر أنّ أحداً في عكا كان يسألها: هل هي مسلمة أم مسيحية.

تصمت تيريز وتتألم لما وصلت إليه الحالة، تتألم لما وصلت إليه القضية الفلسطينية، تتألم لما يجري في دمشق العروبة، وتؤكد أنها ليست ثورة ولا معارضة، بل مخطط لتدمير سورية.

هكذا يقارب الوعي الصحي العميق معادلات الواقع، إنه وعي لا يخطئ في البديهيات، لأنه وعي تربى على شموخ جمال عبد الناصر ورموز المقاومة الفلسطينية: ياسر عرفات وجورج حبش وغيرهما. وعي يتكئ إلى ثقافة جوهرها المقاومة والحرية، لهذا فهي لا تتعامل مع تلك الرموز كأصنام، بل تتشربها كقيم ومفاهيم، وكأنها بذلك تسقي فولاذ روحها.

تيريز الفتاة الحالمة الواضحة من بلادي، وقفت ولما تتجاوز عمر الورد لتجابه المحقق والسجان، فصمدت وقاتلت بكلّ ما أوتيت من قوة، فكانت وكنا.

يا امرأة باسقة من وطني، يا ابنة الوعي الأصيل، يا ابنة الحياة ، يا عصفور المقاومة الجميل لقد نجحت، فكنت نداً لهم، لهذا حكموا عليك بالسجن قرنين وخُمس القرن من الزمان، لكي يؤدبوا من خلالك فكرة المقاومة، لكنهم فشلوا، ونجح عصفور الشمس.

هذه هي تيريز اسحق سلمان الهلسة، فتذكروا الاسم جيداً، امرأة مقاومة ورائعة البهاء وشديدة القوة، امرأة عربية أردنية فلسطينية مسيحية ، هي قوس قزح بجمال الحرية والكرامة والحياة، هي النقيض لكلّ بؤس التقسيم والتعصّب والطائفية والنذالة ، هي امرأة من وطني فلها كلّ الاحترام.

وعذراً… لأنني لم أعرفك من قبل.

المراجع:

مقابلة مع صحيفة الدستور الأردنية – 15 حزيران، 2004

مقابلة مع قناة فلسطين اليوم- 17 أيلول 2012

لقاء مع فضائية الميادين – أجراس المشرق 1 كانون أول 2013

عنوان صفحة الكاتب:

https://www.facebook.com/pages /Nassar-Ibrahim/267544203407374

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى