إيقاعات متفردة على هامش رواية «ذاكرة الأشجار»
يسجّل محمد جبريل في روايته الجديدة «ذاكرة الأشجار» الصادرة لدى «دار الحياة للنشر» في القاهرة منحنى تاريخيًا مهمًا في سلسة كتاباته المتنوعة والغزيرة، متوجًا مشروعه الأدبى بهذه الرواية الجديدة، طارحاً أفكاره وتجاربه، والبنية السردية تعتمد إلى حد بعيد على الفلاش باك والجمل الحوارية والتفاصيل التي تزيد النص دهشة وارتباكًا في آن واحد.
هل هي محاولة لإعادة الجمال إلى هذا العالم الذي انتابه الكثير من القبح؟ إنها في الوقت نفسه محاولة جادة لإنجاح فكرة الحب، بعيدًا عن إشكالية شخصيتين تعتنقان ديانتين مختلفتين وبينهما فرق اجتماعيّ وثقافيّ فهل ستعيش الفكرة؟ هل تقوم فكرة الحب على معطيات بعينها؟ أم أنه شعور لا يستطيع الإنسان أن يحكمه باعتباره منحة يهبها الله في هذه الحياة لمن يمتلك قلبًا ينبض وحسّاً رهيفاً.
بعيدًا عن الإسكندرية معشوقته التي يثري بها فضاءات نصوصه الأدبية: «رباعية بحري… الميناء الشرقي… مد الموج… زمان الوصل… صيد العصاري… والبحر أمامها» وغيرها من النصوص التي رسمت بيد رسام بارع ملامح مدينة بعينها وشوارعها.
المكان في الرواية بعيد تماماً. نحن في حلمية الزيتون في شارع الأشجار. ويعود بنا السارد إلى تلك البيوت الهادئة الناعسة، إلى حكايات من زمن ولى. يتجاوز المكان كمجرد خلفية تدور فيها حوادث الرواية، بل يغدو محورًا رئيسياً من المحاور التي تدور حولها عناصر الرواية وشخوصها. يلجأ المؤلف إلى تلك التقنية الباهرة، برهانًا عن قدرته على جعلنا نرى أوضح، ويبثّ الصدقية في ما يروى، حتى أن بعض الشخوص كانوا يحملون أسماء شخصيات حقيقة يعرفها كثر، راسماً لنا بالكلمات صورًا بصرية تجعلنا نرصد الصور التوبوغرافية للشارع والمحال والنوافذ والشرفات، مستخدماً ذاك الكم من التفاصيل الصغيرة، فيشعر القارئ من خلال تلك المشاهد بروح الأبطال، مؤكدًا العلاقة بين المكان والشخصية التي تعكس بدورها الفروق الاجتماعية والنفسية والإيديولوجية لدى شخوص الرواية.
الوصف أيضًا يهدئ الحركة السردية الصاخبة، مخففاً من حدة الحوادث القهرية وباثاً صوراً بصرية تتسم بالرومانسية وتتعدى الصور الفنية المطروحة كونها فضاءً خارجيًا تثير في ذهن المتلقى ليس صورًا بصرية فحسب بل صورًا حسية، وهنا عبقرية اللغة الروائية السهلة الممتنعة، فالتصوير اللغوي ثمرة انتقاءات مستمدة من الحياة الإنسانية بأكملها. هي أيضًا تشي بمعان كثيرة.
ها هي «سيلفي» الفتاه المصرية الإيطالية تقع في شرك حب من نوع خاص جدًا. ويستحوذ على قلبها الشاب «ماهر فرغلي» لتبدأ رحلة معاناة المشاعر، ويكشف قلم المبدع عن كم العقبات التي نسجتها العادات والتقاليد في مجتمعنا الشرقي كحائل وسور مع سرد مفصل للحياة اليومية التي كانت تعيشها تلك الأسرة المصرية المنحدرة من أصول أوروبية أو أجنبية في تلك الفترة الذهبية من بداية الخمسينيات. وتفاصيل أخرى مشرقة عن المساجد والكنائس والصلاة والقداس والمناولة والاعتراف مهيئًا بدورها طريق الخلاص النهائي الذي اختارته البطلة لينتهي ظهورها على مسرح الحكاية وتذهب طواعية إلى الرهبنة التي لا أعتبرها نهاية بل فاتحة حياة أخرى مغايرة لشخصية «سيلفي» ومعتقداتها. مؤكدًا أنه ليس هناك شر خالص كما أنه ليس هناك خير خالص. وأن النفس الإنسانية مزيج من هذا وذاك.
جوهرة الرواية في العنوان: «ذاكرة الأشجار» الذي يحيل على التحليل والأخذ بنظريات علماء النفس والمفكرين وفي مقدّمهم برغسون، أن الذاكرة ذات طابع نفسي وتظهر في مساحة اللاشعور خاصة إن كانت تحوي لقطات معينة تأثر الإنسان بها وطفت على السطح وظهرت تحمل دلالات صمودها عبر الزمن والوقت، فزمن الحكي باق والنهايات فيه مفتوحة، بل تحيلنا على أن الذكريات في ذاتها أسلوب يعيد المبدع من خلاله بناء الحوادث وتركيب الصور على نحو أوضح: الذكريات نبدأ في تخزينها عندما يكون لدى الإنسان ارتباط عميق بالحياة والبشر.