الثور الأميركي الهائج يخور بعد غرزه بالنصال!
} د. عدنان منصور*
لا تختلف الإمبراطورية الأميركيّة عن مثيلاتها من الإمبراطوريات الاستعمارية، التي هيمنت على معظم دول وشعوب العالم لقرون وعقود طويلة، ومارست بحقها سياسات القهر، جسّدت فيها، قمّة طغيانها، واستبدادها، واستغلالها، وعنصريّتها، ونهبها لثرواتها.
هذه الإمبراطوريات عندما كانت تجد في كلّ مرة، أن نجمها بدأ يأفل، وأنّ الشعوب تميد وتثور، لم يكن أمامها إلا أن تلجأ الى المزيد من وسائل الترهيب: قتل، وقهر، وتصفية للوطنيين المناهضين والمقاومين لوجودها وهيمنتها.
هذه الإمبراطوريات كانت تتصوّر انّ حركة التاريخ تتوقف على بابها، وأنّ سيطرتها على الدول والشعوب هو قدرها، ولا بدّ من استمراريتها. لذلك كانت تدافع عن نفوذها ومصالحها واستقلالها حتى النفس الأخير، علها تعيد عقارب الساعة الى الوراء، وتطيل بعمر امبراطورياتها وتسلطها، غير عابئة بمنطق التاريخ، وحركة تطوره، وتنامي وعي الشعوب، وتطلعاتها للحرية، والاستقلال.
الإمبراطورية البريطانية، وكذلك الفرنسية، والاسبانية، والعثمانية، والفاشية الإيطالية، والنازية الألمانيّة، وغيرها، لم تترك مستعمراتها إلا مرغمة، مع كلّ ما ارتكبته من مجازر، وجرائم وحشية ضدّ الإنسانية، ونهب منظم للشعوب التي كانت وقوداً لحروب الاستعمار وتوسّعاته.
نماذج التنكيل، والقمع، والقتل، وتجارة الرقيق، والعبودية، والإبادة الجماعيّة، التي ارتكبتها بريطانيا وفرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، والسلطنة العثمانيّة، ظاهرة للعيان بأبشع صورها في أماكن عديدة من العالم: في أرمينيا، وليبيا، وسورية، ولبنان والجزائر، وتونس، وفيتنام، وكوريا، والهند، ومصر والجنوب اليمني المحتلّ، ومعظم الدول في أميركا اللاتينية وأفريقيا، وآسيا.
لا تختلف الامبراطورية الأميركية الحالية في نهجها وسلوكها،
وشراستها، وسياساتها المستبدة عن إمبراطوريات القهر والقتل والنهب والاستغلال، وهي تمارس «أخلاق السياسة» ذاتها التي كانت تمارسها الدول الاستعمارية لإطالة عمرها، ونفوذها، وهيمنتها على مساحة العالم.
أميركا تكابر ولا تريد أن تقتنع أنّ زمن التسعينيات من القرن الماضي ليس كما هي الحال في الخمس الثاني من القرن الحادي والعشرين! لا تريد الإمبراطورية المتوحشة، التي رفعت زيفاً ونفاقاً، شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأطلت بها على العالم بأبشع وأقذر سياسات الاستبداد، والإذلال، أن تقرّ أنّ زعامتها على العالم قد ترنّحت، ولم تعد صالحة للاستعمال، وهي تتآكل بسرعة لم يتوقعها منظرو وراسمو استراتيجية أميركا.
هذه الزعامة قال عنها يوماً مستشار الرئيس الأسبق جيمي كارتر لشؤون الأمن القومي زبيغنيو برزينسكي Zbigniew Brezezinski، من «أنّ أفول نجم الاتحاد السوفياتي، معناه تفرّد الولايات المتحدة بمركز الدولة العظمى ذات المسؤولية العالمية، لتبقى القوة العالمية الوحيدة». أما الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، فكان أكثر «ثقة» وعنجهية حين سطر في كتابه «انتهزوا الفرصة» ليقول: «إنّ زعامة أميركا للعالم، لن يكون هناك عنها بديل طيلة العقود المقبلة! فالولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تمتلك من القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية، ما يجعلها تقف في ذروة قوّتها الجيو ـ سياسية. وإذا ما انحدر وضعها ومكانتها كقوة عظمى وحيدة، فإنّ هذا سينتج عن الاختيار وليس بالضرورة!». هذا يعني بنظر نيكسون انه لم يبق على الساحة الدولية سوى دولة عظمى واحدة، وانّ الحاجة تلحّ على ضرورة إيجاد قاعدة جديدة تنظم العلاقات الدولية للوضع الجديد. ايّ بمفهوم نيكسون وزعمه، أنّ الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة المؤهلة لقيادة العالم.
لا تريد الامبراطورية الأميركية أن تقرّ، بأنّ زعامتها كقطب واحد على العالم، كانت وبالاً عليه، وقد ولّت، بظهور دول عملاقة شكلت تحدّياً مباشراً للكاوبوي الأميركي، وسطوته. لم يعُد جنوب شرقي آسيا في عهدة واشنطن وأتباعها، بعد أن تبوّأت الصين موقع الزعامة العالميّة، اقتصادياً، ومالياً، وعسكرياً، وبشرياً، وتقدّم عملاق آخر كالهند، بسرعة نموّها العلمي، والصناعي، والعسكري، والمالي، والاقتصادي، والتكنولوجي. أما روسيا فقد استعادت هيبتها، ومكانتها العالمية، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، حيث استطاع قيصرها أن يقلب موازين القوة ويعزّز حضور روسيا المؤثر في السياسة العالميّة، ويطيح بالزعامة الأحاديّة لواشنطن، ويكرهها على التراجع بالضرورة وليس بالاختيار. وما أوكرانيا إلا الميدان الذي سقط فيه نهائياً القطب الواحد. أضف الى ذلك، دور المنظمات الدولية (بريكس، وشنغهاي)، ودول أخرى فاعلة ساهمت بكلّ قوة في إزاحة أميركا عن عرش القطب الواحد، الذي عانى منه العالم الكثير جراء استبداد واشنطن، التي آثرت العمل على الإطاحة بالأنظمة الوطنية، وحياكة المؤامرات والانقلابات العسكرية ضدّها، وشنّ الحرب على من يعارض توجّهها، وأهدافها، ومصالحها. حروب وفوضى لم تتوقف عن إشعالها منذ أكثر من قرنين.
أمام السلوك الأميركي هذا، نجد في المقابل، انّ الصين لم تخض حرباً ضدّ دولة ما، ولم تتدخل في شؤونها الداخلية منذ سبعين عاماً. بل مدت يد الصداقة والتعاون المشترك، الى الدول في القارة الأميركية، وأفريقيا، وآسيا، والشرق الاوسط، وقامت باستثمار مئات المليارات من الدولارات في مشاريع التنمية الاقتصادية والبشرية فيها.
رغم كلّ ذلك، تصرّ واشنطن على لعب أوراقها الخاسرة تجاه القوى العظمى الجديدة، والقوى الصاعدة الحالية التي عززت مواقعها القوية في محيطها.
في خضمّ التطورات والأحداث التي يشهدها عالمنا، نتساءل: متى ستقرّ الولايات المتحدة، انّ روسيا بوتين، ليست كروسيا يلتسن، وانّ صين شي جين بينغ، ليست كصين شان كاي شك، وأنّ أميركا سيمون بوليفار اللاتينية، ليست كأميركا تروخيليو، وباتيستا وبينوشيه، وانّ الهند التي كانت تشهد المجاعة على أرضها، أصبحت رائدة في مجالات النهضة الهائلة على أنواعها.
متى تقتنع واشنطن انّ العالم يتغيّر، وانّ الحروب التي تخوضها ضدّ الشعوب، وتأجيج الثورات، والفتن، والاضطرابات، وإثارة الفوضى، والاقتتال، ودعم قوى الإرهاب في العالم التي ترعاها، والإطاحة بالأنظمة الوطنية، لن تثبت زعامتها على العالم والتي كانت أشبه بموجة عاتية استثنائية، لم تدم طويلاً، بعد أن اصطدمت بصخور دول صاعدة قوية، حوّلت موجتها الى زبد.
لا غرابة أن نرى في المستقبل القريب هجمة الثور الأميركي تشتدّ في أكثر من مكان في العالم، لا سيما في غربي آسيا، وبالذات منطقتنا المشرقية، مستهدفاً وحدة إيران واستقرارها، والعراق، وسورية، ولبنان، بعد فشله في تحقيق أهدافه فيها.
الثور الأميركي الهائج هو اليوم، وبعد النصال الذي غرزت فيه، وفي أكثر من مكان، على يد روسيا والصين وغيرها، أصبح على الساحة العالمية كالطير المذبوح يرقص من الألم. وما أكثر الرقصات التي ينتظرها العالم من الولايات المتحدة، وهي تؤدّيها في أكثر من موقع على الساحة العالمية. رقصات ستترجمها واشنطن من خلال، إشعال الفوضى هنا، والحرب هناك، إذكاء فتنة في بلد، وفرض عقوبات على آخر. تفتيت نسيج مجتمع لدولة ما، وإثارة العصبيات الطائفية والقومية في بلد آخر، تنفيذ اغتيالات ضدّ قادة، أو تدبير انقلابات عسكرية تطيح بهم.
كلّ هذه الرقصات للثور الأميركي الهائج، لن تمنع من إزاحة الولايات المتحدة عن زعامتها الأحادية قسراً، ليقول العالم بعد ذلك، ومعه روسيا والصين والشعوب الحرة، لكلّ من تبنّى وأخذ بنظرية نيكسون وبرزينسكي، إنّ تنحي الولايات المتحدة عن زعامة العالم لم يأت كما زعمتم بالاختيار، وإنما أتى بالضرورة ورغماً عنها.
إزاحة القطب الواحد عن زعامة العالم كان لا بدّ منه، بعد أن شهدت شعوبه المقهورة، أسوأ وأشدّ الإمبراطوريات قهراً واستبداداً، وقتلاً وعنصرية، واستباحة لحقوق الإنسان، وسيادات الدول، وكرامة شعوبها!
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.