العالم والمعركة الحاسمة بين نموذجين: الأحادية أو التعددية
} حسن حردان
انّ المعارك الجارية هذه الأيام على الصعيد الدولي، اقتصادياً وعسكرياً، تؤشر بشكل لا لبس فيه إلى أنها معارك حاسمة في تقرير مصير النظام العالمي القائم، لدرجة يمكن القول معها إنها معارك ستحسم انتصار أحد النموذجين: نموذج الأحادية الذي لا يزال قائماً، رغم اهتزازه، ونموذج التعددية الذي ورغم انه يشقّ طريقه، إلا أنه لم ينجح بعد في كسر حلقة الهيمنة الاقتصادية الأميركية المتمثلة في التحكم بالتحويلات المصرفية العالمية والذي يلعب فيها الدولار الدور الأساس كعملة عالمية يتمّ تسعير النفط بها واستخدامها كاحتياط أساسي في بنوك الدول المركزية…
أولاً، انّ المعركة التي تدور رحاها على أراضي أوكرانيا، إنما هي في حقيقتها معركة بدأت منذ عام 2014، بين روسيا من ناحية، وحلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة من ناحية ثانية.. هذه المعركة يرمي فيها كلّ طرف بكلّ قوته العسكرية، فالناتو يقوم بتزويد أوكرانيا بكلّ ما تحتاج إليه من السلاح الغربي المتطور، ويشرف ضباطه وخبراؤه العسكريون على تدريب الجنود الأوكران، وإدارة المعركة في غرف العمليات وفي الميدان، والأقمار الاصطناعية الغربية تزوّد القيادة العسكرية للجيش الأوكراني بكلّ المعلومات عن حركة القوات الروسية.. وفي المقابل فإنّ روسيا تزجّ بأقصى ما لديها من قدرات عسكرية وقوات برية في هذه المعركة بهدف إحباط خطة الغرب لتطويق روسيا وإخضاعها للشروط الغربية وإنهاء آمالها في لعب دور على الصعيد الدولي يكسر الهيمنة الأميركية.. ومن الواضح، بعد النجاحات التي حققتها القوات الروسية في السيطرة على إقليم خيرسون وزابوروجيا ولوغانسك ودونيتسك، ومساحات كبيرة من مقاطعة خاركيف، بدأت عمليتها العسكرية تراوح مكانها، في حين كان الجيش الأوكراني مدعوماً من الناتو الذي يشرف على عملياته يحضّر لإحداث اختراق في الميدان مستنداً إلى التعبئة الواسعة التي قام بها الجيش الأوكراني، في مقابل النقص في عديد القوات الروسية التي تسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي الأوكرانية، مما أتاح للقوات الأوكرانية حشدَ قوات كبيرة، قدّرت بـ 30 ألف جندي، على جبهة خاركيف التي لا يتواجد فيها أكثر من خمسة آلاف جندي روسي، وشنَّت هجوماً واسعاً واستعادت هذه المنطقة من القوات الروسية التي اضطرت للتراجع إلى داخل الحدود الروسية.. واعتُبر ذلك غربياً بمثابة فشلاً كبيراً للعملية الروسية ودليلاً على ضعف أداء الجيش الروسي وارتباك قيادته وعدم الإحاطة بالواقع الميداني وحجم التعبئة الأوكرانية وكذلك حجم الدعم الغربي للجيش الأوكراني الذي أصبح يمتلك كافة الأسلحة الغربية المتطورة، ما عدا الطائرات والدبابات..
في مواجهة هذه الانتكاسة العسكرية الروسية، والتي ذهب بعض المحللين العسكريين إلى وصفها بالهزيمة التكتيكية، عمد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبعد تقييم الموقف مع القيادة العسكرية، إلى إعلان التعبئة الجزئية لقوات الاحتياط، بما يمكن الجيش من تجنيد 300 ألف عسكري يملكون اختصاصات متعددة، وذلك لسدّ النقص في القوات البرية وتأمين جبهة طولها ألف كلم.. وأعلن بوتين انه في مواجهة تهديد الغرب لروسيا فإنّ كلّ الوسائل متاحة للدفاع عن روسيا وأراضيها، بما فيها الأسلحة النووية، في وقت صاحب هذا الكلام الإعلان عن إجراء استفتاء في إقليم خيرسون وزابوروجيا ولوغانسك ودونيتسك، للانضمام إلى الاتحاد الروسي، الأمر الذي دفع المراقبين إلى تفسير تهديد بوتين باستخدام السلاح النووي اذا ما تعرّضت الأراضي الروسية لأيّ خطر أو تهديد، على أنه سيشمل الإقاليم التي سيجري فيها الاستفتاء باعتبارها أراضي روسية، بعد أن يتمّ قبول نتائج الاستفتاء بالموافقة على الانضمام إلى الاتحاد الروسي.. هذا الأمر يؤشر بوضوح إلى أنّ روسيا قرّرت أن تشهر كلّ قوّتها لتثبيت سيطرتها على الأقاليم المذكورة، ومنع الغرب من تحقيق ايّ نصر في الميدان، وفي المقابل فإنّ الغرب قرّر أن يخوض المعركة ضدّ روسيا لمنعها من تحقيق ايّ نصر، وتكريس الهيمنة الأميركية الأحادية.. وبالتالي الحيلولة دون ولادة نظام دولي جديد يقوم على التعددية القطبية.. وعليه يبدو واضحاً انّ روسيا ليست في وارد التراجع أمام الغرب حتى ولو اضطرت إلى استخدام السلاح النووي لحماية وحدتها والحفاظ على دورها العالمي.. والغرب بقيادة أميركا لا يريد التخلي عن سياسة الهيمنة ومصمّم على خوض المعركة للنهاية في محاولته إلحاق الهزيمة بروسيا.. ولهذا فإنّ العالم بات أمام معركة فاصلة وحاسمة في تقرير ايّ نموذج سيسود، نموذج الهيمنة الأحادية الأميركية، ام نموذج التعددية الدولية..
ثانياً، أنّ هذه المعركة العسكرية الدائرة في أوكرانيا، قابلتها معركة لا تقلّ شراسة، وهي المعركة الاقتصادية، التي بدأها الغرب بفرض العقوبات على روسيا منذ اليوم الأول لبدء العملية الروسية في أوكرانيا.. لكن هذه العقوبات لم تحقق ما هدفت اليه أميركا وحلفاؤها الغربيؤن، بسبب نجاح روسيا في احتواء العقوبات واستخدام ثرواتها الكبيرة من موارد النفط والغاز والمعادن، وتسعيرها بالروبل، مما أدّى إلى تقوية العملة الروسية، وإضعاف اليورو، إلى جانب ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية والتضخم في الدول الغربية… هذه النتائج للعقوبات جعلت موقف الغرب في مواجهة روسيا ضعيفاً، مما دفع بعض دول الغرب الى قبول شراء الطاقة من روسيا بالروبل، لضمان استمرار تدفق الغاز إليها في فصل الشتاء القاسي.. على انّ ارتفاع أسعار الطاقة حقق عائدات مالية كبيرة للخزانة الروسية، تقدّر بأكثر من مئتي مليار دولار خلال أشهر الحرب، مما جعل نتائج المعركة الاقتصادية في صالح روسيا، أقله حتى الآن، فيما دول الغرب تئنّ من الأزمات التي تسبّبت بها عقوباتها التي فرضت على روسيا بناء على الإملاءات الأميركية، على حساب مصالح الدول الغربية..
إذا ما أخذنا بالاعتبار المعركتين العسكرية والاقتصادية، فإنه يمكن القول، إنّ هناك استنزافاً متبادلاً بين روسيا والغرب، بل انّ روسيا أقلّ تضرراً اقتصادياً وهي قادرة على تحمّل أكلاف الحرب العسكرية أكثر من الغرب الذي يئنّ من ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء والتضخم وتراجع قيمة اليورو مما ترك انعكاسات سلبية على مستوى معيشة الأوروبيين.. الذين بدأوا يتظاهرون في بعض دول الاتحاد احتجاجاً على غلاء الأسعار.
لكن يجب لفت النظر الى انّ إصرار الغرب على سياسة الهيمنة ومحاولة إخضاع روسيا، هو الذي دفع ويدفع الأمور إلى إدخال العالم في خطر نشوب حرب نووية، لأنّ روسيا لن تتراجع أمام الغرب وتقبل بانهيار دولتها الاتحادية، في حين انّ العالم كله يتأثر من جراء استمرار هذه الحرب من خلال ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء وزيادة التضخم…