أولى

هو تقاسم حقول وثروة وليس ترسيماً لحدود بحريّة

} العميد د. أمين محمد حطيط*

أما وقد نجح الوسيط الأميركي في وضع مسودة تفاهم بين لبنان و»إسرائيل» حول استثمار الثروات البحرية القائم نزاع حولها بينهما منذ أن بدأ لبنان بالتعاطي مع هذا الملف في العام 2007 حيث كان مشروع الاتفاق مع قبرص وتسلسلت بعدة مراحل تقليب الملف منذ ١٥ عاما الى أن وصل إلى خواتيمه كما يبدو من خلال مواقف الطرفين الإيجابية من العرض الأميركي، أما وقد وصلنا الى هذه النتيجة فإنّ هناك أسئلة كثيرة قد تطرح وتتطلب أجوبة صريحة، كما انّ هناك مصطلحات ومفاهيم يجب ان تتوضح حتى لا تلتبس الأمور وتختلط المعاني ويتّسع الظنّ في المجهول.

نبدأ أولاً بتوصيف ما حصل وما هي الطبيعة القانونية للخطوط التي اعتمدت والتوافقات التي حصلت او قد تحصل حيالها بناء لمسودة العرض الأميركي؟

قد يستسهل البعض توصيف الموضوع الذي تتجه الأطراف للموافقة عليه بأنه ترسيم حدود بحرية بين لبنان و»إسرائيل»، لكن البحث الموضوعي ينفي هذا التوصيف ويسقط هذه الفرضية، حيث انّ الترسيم البحري هو عمل قانوني سياسي يستند الى قواعد القانون الدولي العام وفي طليعتها قانون البحار، والى الحدود البرية القائمة والمعترف بها دولياً فضلاً عن احترامها بين الطرفين المعنيين. وفي حالتنا الحاضرة فإنّ مسودة الاتفاق لا تشير لا من قريب ولا بعيد الى هذه المراجع، وهي كما كان اتفاق الإطار قبلها أهملت كلياً تلك المراجع وخرجت عن ان تكون ترسيماً قانونياً يستند الى قانون البحار واتفاقية «بوليه نيوكمب» واتفاقية الهدنة التي ألغتها «إسرائيل» من جانب واحد في العام ١٩٦٧ لتتنصّل من القيود التي تفرضها عليها. ولهذا نلاحظ خطّ التقاسم (خط ٢٣ مع جيبه) لا يتصل بالبرّ ولا يستجيب لأحكام خط الوسط كما يفرض قانون البحار، وليس خطاً مستقيماً بل فيه جيب قانا، إذن ليس هو بخط حدود قانوني بل هو «خط تفاهم لتقاسم ثروة».

ثم انّ هذا الاتفاق لا يصحّ وصفه بالترسيم التسووي ـ السياسي خاصة أنّ لبنان يرفض الاعتراف بـ «إسرائيل» ويرفض التفاوض المباشر معها ويرفض مجرد التوقيع معها على صكّ مكتوب واحد، ويصرّ على وجود مرجع ثالث وسيط لتبادل المواقف معها.

والنتيجة الأولى التي نخلص إليها بأنّ ما يجري الحديث عنه ليس ترسيماً لحدود بحرية بل هو تفاهم بين لبنان و»إسرائيل» على تنظيم استثمار الثروات البحرية وتقاسمها بالشكل الذي يرتضيه كلّ طرف ويجعله يشعر أنه خرج من السجال رابحاً وفقاً لمعادلة رابح ـ رابح التي حلت مكان ما كان قائماً قبلها منذ ١٥ عاماً من معادلة رابح ـ منتظر، حيث كان فيها الطرف «الإسرائيلي» يستكشف وينقب ويهيّئ نفسه للإنتاج والطرف اللبناني ينتظر وينتظر الخروج من حالة الترقب والبدء بالتنقيب الذي يعطله الحصار والحرب الاقتصادية التي تمارَس ضدّه بقيادة أميركية. وهنا نرى انّ المسودة التفتت الى هذه الحقائق وأقرّ واضعها بأنّ ما قام به ليس ترسيماً لحدود بحرية بل هي تفاهم لاستثمار ثروات بحرية.

ننتقل بعد ذلك إلى مسألة نفي المسودة تأثير هذا التقاسم على الحدود البرية، وهذا الأمر من الوجهة القانونية هو لزوم ما لا يلزم، لأنّ الحدود البرية للبنان مع فلسطين المحتلة المحدّدة باتفاقية «بوليه نيوكمب» ١٩٢٣ الحدود التي تبدأ من نقطة رأس الناقورة المنصوص عليها في هذه الاتفاقية والمدعمة بنقطة B1 ذات الإحداثيات الثابتة والواضحة. هذه الحدود ليست بحاجة إلى ترسيم جديد وهي حدود نهائيّة معترف بها دولياً ومؤكد عليها في اتفاقية الهدنة ١٩٤٩ ولا يملك أيّ مسؤول لبناني الحق أو الصلاحية بإعادة النظر بها إلا إذا تمّ تعديل الدستور اللبناني الذي يحدّد حدود لبنان وانّ مجرد استعمال مصطلح ترسيم الحدود البرية يعتبر خطأ فادحاً، لأنه يتضمّن نية مراجعة الحدود وهو غير مسموح كما أشرنا.

وعليه وبعيداً عن البحث في مكاسب لبنان وخسائره من هذا التفاهم، أشدّد على التأكيد بأنّ ما حصل هو عمل اتفاقي دون مستوى الترسيم الحدودي، وإذا رغب الأطراف في تطويره فعليهم العودة الى المراجع التي تنظم عملية ترسيم الحدود البحرية وفي طليعتها قانون البحار الذي لم تنضمّ إليهإسرائيلحتى الآن. وفي عملية تقييم شاملة للمسألة ومسار معالجة لبنان للملف نسجل:

ـ ارتكب لبنان وعلى مدار ١٥ عاماً سلسلة من الأخطاء تسبّبت في ضعف موقفه في مواجهة العدوالإسرائيليبموضوع ترسيم الحدود البحرية للمنطقة الخالصة التابعة له. بدءاً بالخطأ في تحديد النقطة ١ لدى التفاوض مع قبرص في العام 2007 مروراً بإهمال المقترح اللبناني والمتطابق مع رأي المركز الهيدوغرافي البريطاني في العام 2010 وصولاً الى المرسوم 6433/ 2011 الذي أودعه لبنان لدى الأمم المتحدة معتمداً الخط ٢٣ دون أيّ سند قانوني، ولا نهمل أيضاً الخطأ في عدم تعديل المرسوم قبل الدخول التفاوض في العام 2020 ليكون الموقف اللبناني باعتماد الخط ٢٩ أصلب وأقوى.

ـ وقع لبنان خلال ١٥ عاماً ضحية سياسة المماطلة والتسويف وعدم الاهتمام بمواقفه السياسية التي مارستهاإسرائيلومعها أميركا، حيث استهلكت هذه الفترة وبمراحل متقطعة بعمليات تفاوض غير مباشر متعاقبة يلهي لبنان ويعطيإسرائيلالوقت الكافي حتى تستكشف وتنقب وتهيّئ نفسها للإنتاج، وهي المرحلة التي وصلت إليها وكادت ان تباشرها لولا تدخل المقاومة من لبنان وفرضها معادلة قوة غلت يدإسرائيل”.

ـ استنقذ لبنان بهذا التفاهم جزءاً مهماً من حقوقه النفطية والغازية في البحر وأحدث خرقاً في الحصار والحرب الاقتصادية التي تشنّها أميركا عليه، وإذا صدقت النوايا واحترمت الالتزامات فإنّ لبنان سيكون على موعد مع التنقيب لاستكشاف ثروته النفطية وبدء التحرك لوقف انهيار اقتصاده ونقده من خلال الأمل بالدخول في نادي الدول المنتجة للنفط والغاز.

ـ لم تتمكنإسرائيلمن انتزاع موافقة لبنان على التطبيع معها او الاعتراف بها او الاستثمار المشترك، كما أنها فشلت في إلغاء نقطة الحدود البرية الأولى في رأس الناقورة او النقطة B1 وبقيت الحدود البرية على حالها، كما أنها فشلت في فرض منطقة أمنية بحرية في المياه الإقليمية اللبنانية بإشرافها المباشر.

ـ أثبتت المقاومة في لبنان أنها ركن القوّة الهامّ الذي يحتمي به لبنان ليس لتحرير أرضه وحمايتها من الاحتلال والإرهاب فحسب كما فعلت في العام  2000 والعام ٢.١٧ وما بينهما بل هي أيضاً تحمي الحقوق والثروات، وبكلّ موضوعية نقول إنّ المعادلات التي فرضتها المقاومة والمختصرة بعباراتإنتاج ـ إنتاجأوتعطيل ـ تعطيلهي التي استنقذت ما يمكن استنقاذه من حقوق لبنانية كانت تهدرها سياسة المماطلة والتسويف وعدم الاكتراث والحصار المفروض على لبنان. ونعتقد انّ لبنان لو أتقن تقليب ملفه ولم يرتكب هذا الكمّ من الأخطاء لكان في ظلّ قوة المقاومة وحسن أدائها حصل على أكثر بكثير مما حصل عليه الآن.

 

*أستاذ جامعيّ ـ باحث استراتيجيّ

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى