من إبراهيم النابلسي إلى عدي التميمي
ناصر قنديل
ــ بما يتخطّى حدود الإكبار الواجب والمستحق للمقاومين الاستشهاديين الجدد في فلسطين، تستحق الظاهرة بعض القراءة الهادئة، فمنذ العملية العبقرية في جلبوع التي نفذها مقاومون أبطال بمثابرة وكتمان وطول نفس وصبر حتى تمكنوا من كسر القيود وتنفس الحرية، نحن أمام تنامي وتصاعد ابتكارات عبقرية جديدة يقدم عبرها المقاومون مشاهد مذهلة للبطولة وعلامات مبهرة على العزيمة والإصرار، والثقة واليقين بحتمية الانتصار. فما قاله الشهيد ابراهيم النابلسي أحد مؤسسي عرين الأسود في وصيته المسجلة بصوته عن حتمية ارتقائه شهيداً ويقينه بأن رفاقه سيتابعون المسيرة وهو يودع بين أيديهم وصيته الأخيرة “لا تتركوا السلاح”، يشبه تماماً وصية الشهيد عدي التميمي المكتوبة عن العزم على الشهادة، والثقة بأن شباب فلسطين من بعده يتكفّلون بمواصلة القتال. لكن الجامع بين هذه الظواهر من جلبوع إلى النابلسي والتميمي هو المعادلة التي تقول، نعلم أننا سنستشهد قبل أن نشهد النصر، لكننا نمضي بثقة أن النصر آت، وأن هناك مسيرة انطلقت ولن تتوقف.
ــ أمران لافتان في الجيل الفلسطيني الجديد الذي يمسك القضية بين يديه بكل نضج ومسؤولية، رغم صغر سن القادة الذين يصنعون المعادلة الجديدة، الأول الصيغة العابرة للفصائل التي تضع مبدأ المقاومة والهوية الفلسطينية كمضمون كافٍ لتشكيلات عملياتية تحشد الطاقات على مستوى الحي والشارع والمخيم والقرية، وهو ما لا يتوفر لكل فصيل على حدة، ولا يستطيع انتظار وحدة الفصائل التي منحت فرصاً عديدة ولم تثمر. وظاهرة عرين الأسود كما جلبوع تعبيرات متعددة عن هذه الفكرة. الثاني هو ابتكار نموذج استشهادي جديد للمقاوم، يقوم على تثبيت الحاجة لمقاومين استشهاديين، والقصد مقاومون يؤمنون بأن النصر حتمي لكنه ليس قريباً، ولا يحق للمقاوم ربط حياته بأن يشهد النصر، ولن يصير أقرب إلا إذا استنهض آلاف الشباب الفلسطيني الى حمل السلاح والانخراط في القتال، وهذا لن يتحقق إلا بتقديم مشهديات بطولية ملحمية تستنهض الهمم وتشحذ الإرادات، وتضخ الوعي، ولكن مفهوم الاستشهاد هنا مختلف عما عرفناه في النماذج الاستشهادية السابقة التي تقوم على تفجير المقاوم جسده بموقع أو دورية لجيش الاحتلال، وهو نوع من العمل يستدعي موارد وإمكانات وتنظيم يحتاج الى ما يتخطى قدرات الأفراد والجماعات التي تتولى حالياً العمل المقاوم، بينما ما نحن أمامه هو مقاوم فرد يطلق النار ويشتبك ويصيب الهدف ويسعى للانسحاب سليماً، ليعاود الضرب مجدداَ، ويكرر فعله المقاوم ما استطاع حتى يستشهد. والمشهد الملحمي لشهادة عدي التميمي وهو يقاتل بينما يلفظ أنفاسه، ويبدل ممشط مسدّسه، ويواصل اطلاق النار مع آخر شهيق وزفير، قد اثبت التطابق بين الفعل والقول، بحيث صارت كلمات التميمي أيقونة تشبه صور الفيديو التي نقلت معركته الأخيرة وصولاً للشهادة.
ــ المشهد يقول بما لا يقبل الشك إن الوصفة الجديدة تنجح بشكل باهر، والتفاعل الشعبي الذي لاقته ظواهر جلبوع والنابلسي والتميمي والعرين، من جهة، والنهوض الشبابي الذي صنعته، من جهة مقابلة، يقولان إن مرحلة جديدة تبدأ في فلسطين. وهذه رسالة للفصائل وكل القيادات الفلسطينية لا يمكن الاستهانة بها، والشارع الفلسطيني والشباب الفلسطيني يفرزون قيادات جديدة وتشكيلات جديدة، ولذلك لم يعد هناك من فرصة للسلطة الفلسطينية أن تواصل التنسيق مع أجهزة الاحتلال دون أن تتحول بنظر شعبها ومقاومته إلى ما يشبه جيش انطوان لحد العميل للاحتلال، وتعامل على هذا الأساس. ولم تعد هناك فرصة لتبرير الانقسام بين حركتي فتح وحماس دون عقاب شعبي، ولا لبقاء الفصائل الفلسطينية في دوائر سياسية إقليمية لا تقاس بالبوصلة الفلسطينية والمقاومة. فلا تسامح مع من يراعي المطبّعين ويخاصم المقاومين، ولهذا مهما كانت التحليلات لمصالحة الجزائر ودرجة جديتها، ومهما كانت المقدمات لذهاب حركة حماس باتجاه دمشق، فإن لهذا المشهد الفلسطيني الجديد بصمة واضحة في صناعة هذه التغييرات وحمايتها.
ــ ليس بعيداً اليوم الذي تبدأ ظاهرة المناطق المحررة التي لا يجرؤ الاحتلال على دخولها في الضفة الغربية، ولو جرّد عليها حملات عسكرية كما يفعل اليوم مع جنين ونابلس، والمعارك الكبرى مقبلة، ومهمة الفصائل من الآن هي الاستعداد لتجهيز نفسها لمعارك تشبه معارك الدفاع عن غزة وقدرات الردع التي تمتلكها، أو تسييل قدرات الردع التي تمتلكها غزة لحماية المناطق المحاصرة في الضفة، لأن العمل المقاوم في الضفة لم يعد ينتظرها وقيمتها المضافة صارت تتمثل بالقدرة على الردع.