من وراء المحيط: واشنطن تدفع إلى مواجهة كارثية بين أوروبا وروسيا!
} د. عدنان منصور*
منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، ومعه منظومة الدول الشيوعية،
وبعد ان تبوأت الولايات المتحدة مركز الزعامة العالمية، والقطبية الأحادية، ظنّ المجتمع الدولي انّ الفرصة متاحة الآن لواشنطن، أكثر من أيّ وقت مضى، لمدّ اليد الى روسيا،
وطيّ صفحة الحرب الباردة، والعمل معاً على تعزيز السلام والاستقرار والأمن على الساحة العالمية كلها.
واشنطن، وإنْ رفعت شكلاً شعارات براقة دغدغت مشاعر الشعوب في الحرية، والديمقراطية، والسلام، وحقوق الإنسان، فإنها لجأت الى سياسات استفزازية تجاه روسيا، من خلال العمل على تمدّد الحلف الأطلسي باتجاه الشرق، مستهدفاً بالمباشر روسيا وأمنها القومي، وتعزيز هيمنتها من خلال احتواء الدول المعارضة لسياساتها وأهدافها، أكان ذلك سلماً أو حرباً.
ان يتوسع الحلف الأطلسي، ويتمدّد ليصل الى خاصرة روسيا، ويشكل تهديداً مباشراً لها، من خلال أوكرانيا وغيرها، فهذا أمر عادي بالنسبة لواشنطن، ولا داعي لردود الفعل العسكرية الروسية. لكن ان تتدخل الولايات المتحدة عسكرياً، وتشنّ اعتداءات على دول، وتطيح بأنظمتها الوطنية، وهي على بعد عشرة آلاف كلم من أراضيها، سرعان ما تجد مبرّراً لتدخلها العسكري، بذريعة حماية الأمن القومي الأميركي، والسلام العالمي!
خلال السنوات الثلاثين الماضية، وقبيل وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي، استخدمت واشنطن القوة العسكرية ضد أكثر من دولة في العالم، من أجل تطويقها، وتطويعها، والتحكم بسياساتها وقراراتها.
لقد طال التدخل العسكري، والاعتداءات الأميركية، العديد من الدول، منها صربيا عام 1999 بعد تفكيك يوغوسلافيا، والعراق عام 1991، و2003، وليبيا عام 2011، والسودان 1998، وسورية واليمن منذ عامي 2011، و2015 على التوالي. كما تدخلت عسكرياً في الفليبين وبنما عام 1989، وفي هاييتي أعوام 1994 و2004 و2010، وفي كولومبيا عام 1999.عدا عشرات الاعتداءات، والانقلابات، والتدخلات العسكرية الأميركية التي قامت بها واشنطن ضدّ العديد من دول العالم على مدى قرنين ونصف من الزمن.
لم تكتف واشنطن بهذا القدر من التدخلات والاعتداءات،
بل كانت أيضاً وراء الانقلابات العسكرية التي أطاحت بالأنظمة الوطنية، والعقوبات الاقتصادية الشرسة الأحادية الجانب، والتي فرضتها على دول عديدة تغرّد خارج السرب الأميركي، وتعارض سياساتها، إذ ألزمت دول العالم التقيّد بها، والعمل بموجبها، تحت طائلة تعرّضها للعقوبات الأميركية.
هكذا فرضت واشنطن العقوبات على كوبا، وإيران، وكوريا الشمالية، وليبيا، وفنزويلا، والعراق، والسودان، وسورية، ولبنان، وأفغانستان، وروسيا، وعلى شركات وأفراد في أكثر من دولة في العالم.
ها هي اليوم واشنطن تؤجّج الحرب الأوكرانية، من وراء الأطلسي، ولم تكتف بزجّ أوروبا الخنوعة لها في أتون حرب انهكت اقتصاداتها، بعد ان أشعلت الثورات البرتقالية التي استهدفت بالمباشر روسيا ومجالها الحيوي، وأمنها القومي، ووحدة شعبها.
عندما فشلت الولايات المتحدة في احتواء روسيا وتقليص دورها على الساحة العالمية وتحجيمه، وبعد ان أيقنت انها لن تستطيع تحقيق أهدافها بالسهولة التي كانت تتوقعها في أوكرانيا من خلال دميتها زيلينسكي، ورغم تصريحات مسؤوليها عالية النبرة وتهديداتهم، ووعيدهم، أدركت واشنطن انّ الإجراءات والعقوبات السياسية والاقتصادية، والمالية، والتجارية، ضدّ موسكو، والدعم السياسي، والمالي، والإعلامي، والعسكري الهائل المتواصل لكييف، لم يحقق النتيجة المبتغاة في كسر الهيبة والقوة العسكرية الروسية، وحمل روسيا على التراجع.
ما حققته الولايات المتحدة، هو أنّ الاتحاد الأوروبي أصبح في قبضة واشنطن، وأكثر التصاقاً بها، عدا التداعيات التي لحقت باقتصادات دوله، وتراجع عملته، وتخبّطه في مشاكله المعيشية، والطاقوية، والخدمية، مع ما يعانيه من استنزاف لخزائنه، ومن خلافات وتباين في سياسات، ووجهات النظر بين دوله، وداخل شعوبه.
سيجد الاتحاد الأوروبي نفسه بعد حرب أوكرانيا، قاصراً وأكثر تعلقاً، وانتماء وارتماء في الحضن الأميركي !
لقد خطت روسيا بوتين خطواتها الثابتة، ولا تراجع عنها بأيّ حال من الأحوال. فما قبل 5 تشرين الأول 2022، ليس كبعده، وهو التاريخ الذي وقع فيه الرئيس بوتين مرسوم ضمّ مناطق دونيسك، ولوغانسك، وخيرسون، وزابوروجيا الأوكرانية الى روسيا. فمنذ هذا التاريخ، أصبحت روسيا تدافع عن أرضها في هذه المناطق، ولا تراجع او مساومة او تفاوض بشأنها. إنها رسالة بوتين الحاسمة والقوية لأوروبا ولكلّ من يحركها، ويحرّضها.
واشنطن التي جعلت من أوروبا حصان طروادة لها، يبدو أنها ذاهبة للتصعيد في أوكرانيا، من خلال الدعم العسكري النوعي واللوجستي دون حدود، مستفزة روسيا كي يلجأ قيصرها الى قرارات عسكرية متهوّرة، لتؤلّب في ما بعد دول العالم عليها. وذلك رداً على ما قد تقوم به أوكرانيا، ورئيسها الذي لم ينفك عن مطالبة أوروبا وأميركا بعمل عسكري حاسم واسع النطاق ضدّ روسيا.
لكن ان يحذر المسؤولون الروس من احتمال تصنيع أوكرانيا للقنبلة القذرة، وهي قنبلة تحتوي على متفجرات تقليدية، ملوّثة بمواد مشعّة، معدّة للانتشار كغبار، واستخدامها ضدّ روسيا، وإنْ نفى حلفاء أوكرانيا مزاعم روسيا في هذا الشأن، فإذا ما لجأت كييف، الى استخدام هذه القنبلة وكانت البادئة في ذلك، فهذا لن يتمّ دون غطاء ودعم، وتحريض، وتشجيع أوروبا وواشنطن لزيلينسكي، وغضّ النظر عما قد يقوم به من تصنيع للقنبلة، واستخدامها ضدّ روسيا، وهذا ما سيشرع الأبواب أمام مواجهة تاخذ أبعادها الخطيرة، ليس فقط على الساحة الروسية الأوكرانية، وإنما على الساحة الأوروبية ككلّ، وقد يتجاوز ذلك القارة العجوز.
إنها مسؤولية أوروبا أولاً، لتدرك انّ المستفيد الوحيد من الحروب، هي الولايات المتحدة. وانّ حرب أوكرانيا ما كانت لتحصل لولا انجراف الاتحاد الأوروبي وتبعيته لسياسة واشنطن دون حساب أو ضوابط.
لم تطل العقوبات المالية والاقتصادية، والطاقوية، روسيا لوحدها، بل ارتدّت على دول أوروبا، فالأميركي لن يتردّد في ابتزاز حليفه الأوروبي، ولا يرضى ببيعه الغاز الا بثلاثة أضعاف أو أكثر، عما كان يشتريه من روسيا.
إنها سياسة الولايات المتحدة في العالم! مصالحها فوق كلّ اعتبار، وما الحروب التي تشعلها إلا لتصبّ في خدمة أهدافها. لا يهمّها عدو او حليف، طالما انها تبتز وتستغلّ، وتستفيد في الوقت المناسب.
هل تقتنع أوروبا بذلك ام أنها ستذهب بعيداً مع إملاءات وضغوط واشنطن، وانْ لحق الخراب بها وبالعالم كله.
رغم انّ الاتحاد الاوروبي يملك أكبر اقتصاد في العالم من حيث الناتج القومي، وتعداد سكاني يتجاوز الـ 500 مليون نسمة، وموازنة عسكرية تصل الى 280 مليار دولار، وعملة عالمية يستخدمها، لم يستطع أن يخرج من العباءة الأميركية وإملاءاتها وضغوطها.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تستطع أوروبا ان يكون لها القرار الدولي المستقلّ، بمعزل عن سياسات واشنطن وقراراتها وعقوباتها. وما العقوبات الأحادية الجانب التي تفرضها واشنطن على دول، وتلزم بها سائر بلدان العالم، وبالذات الاتحاد الأوروبي، الذي يتقيّد بقراراتها دون تردّد، إلا الدليل على مدى خضوعه لإملاءات ورغبات واشنطن. وما انسحاب أميركا من الاتفاق النووي الإيراني، وإعادة فرض العقوبات الأحادية من جانب واشنطن، والتزام الاتحاد الأوروبي في ما بعد بها، إلا الدليل الحي على مدى علاقة الآمر والمأمور، والتابع والمتبوع.
متى تتوقف أوروبا عن الانغماس أكثر فأكثر في الحرب الأوكرانية التي تؤجّجها واشنطن، واضعة العالم وبالذات أوروبا أمام احتمال حرب كارثية مدمّرة، تكون وقوداً لها، حيث عليها أن تدفع الثمن الغالي، فيما هناك وراء الاطلسي، من هو المحرّض، والموجّه، والمستفيد الوحيد من حصاد الحرب التي ستترك ذيولها الكارثية على الدول الأوروبية، وتضع على المحكّ بعد انتهاء الحرب مدى صلابة، واستمرارية الاتحاد الأوروبي، وعدم تصدّع وحدته!
إنها الولايات المتحدة التي تجسّد في عالمنا الحالي،
الإله آريس Arès عند الإغريق، الذي كان يعتبر إله الحرب، والوحشية العمياء، والغضب والمجازر الدموية. هي أميركا التي تأكل الحصرم اليوم، والأوروبيون سيضرسون، وإنّ غداً لناظره قريب…
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق