لولا النكد… لبنان يحتفل بأول حرب نفسية كاملة… تنتصر
ناصر قنديل
– كما تكفل النكد والكيد السياسي بتضييع الفرصة التي مثلتها حكومة الرئيس حسان دياب لإثبات أهلية ما سُمّي بالأغلبية النيابية، المتوافقة على الخط الاستراتيجي الواحد الذي تمثله المقاومة، على تشكيل أغلبية حاكمة وتقديم نموذج مختلف قادر على تقديم حلول للأزمات، يثبت كل يوم ان ما قدمته حكومة الرئيس دياب كان أفضلها ولا يزال المرجع الذي تضطر أي حكومة لاحقة أن تعود اليه كلما واجهت تحدياً مع المؤسسات المالية الدولية التي لا تقبل الكلام الفارغ الذي يريد تغطية نظام الريع المصرفي. كذلك يتكفل النكد والكيد بتضييع وهج اللحظة التاريخية النادرة التي توافرت للبنان من بوابة إنجاز استثنائي نادر في تاريخ دول أقوى وأكبر وأكثر تماسكاً وامتلاكاً لمراكز صناعة القرار، وأوسع حيلة ويداً وأعلى مرتبة بما لا يقاس في مجال امتلاك المقدرات، لكن هذا لا يجب أن يأخذنا للمشاركة في تضييع الفرصة لقراءة ما قالته لنا هذه اللحظة التاريخية.
– بعيداً عن قواعد السجال المفتعلة حول ما جرى في حقول النفط والغاز، يمكن ببساطة قراءة خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله التفصيلي في تحليل مسار المعركة بكل أبعادها، وفق خلاصة مزدوجة، ركنها الأول أن المقاومة فرضت على عدوها الانكفاء أمام حرب نفسية نجحت بخوضها وفازت بها دون أن تطلق رصاصة واحدة، وكانت كل كلفتها ثلاث مسيّرات حلقت قرب كاريش وتركتها المقاومة تسقط لتبلغ الرسالة الحربية، ومعها كلفة أيام الاستنفار وجهود المقاومين والقادة الذي كانوا على أتمّ الجهوزية للحرب، وركنها الثاني أن الدولة اللبنانية نالت ما طالبت به دون تنازل، ودون أن ينال العدو منها أي ثمن مقابل، لا في مستوى الاعتراف الواقعي، ولا في شكل من أشكال التطبيع الذي سعى إليه، ولا في التسليم بترسيم الخط الممتدّ بين البر والبحر وفقاً للأمر الواقع الذي فرضه الاحتلال.
– يعترف قادة الكيان في الحكم والمعارضة، في السياسة والجيش والأمن والرأي العام، بأن السيد حسن نصرالله أبرز قادة الحرب النفسية في الزمن المعاصر، وها هو يخوض حرباً نفسية كاملة الأركان، ليست جزءاً مكملاً للحرب الواقعية التي تخاض في الميدان، كما هي العادة، ويكتب لها ما مثلته من دور في المساعدة على الفوز بالحرب الشاملة، بل هي حرب نفسية فقط تحلّ مكان الحرب الواقعية وتحقق الأهداف المرجوة منها، بما يندر وجود مثيل لها في تاريخ الحروب الذي نعرفه. والأقرب لها كمثال ربما يكون في مشهد الاستنفار السوفياتي الأميركي في خليج الخنازير، أثناء الحصار الأميركي لكوبا والتهديد باجتياحها، حيث حقق التهديد بالحرب نتائج الحرب، لكن الفارق أنه في مواجهة خليج الخنازير انتهى الأمر إلى تسوية نتجت عن تنازلات متبادلة، بينما نحن أمام انتصار كامل لطرف خاض الحرب النفسية وحقق عبرها كامل الأهداف المرسومة التي كان يمكن أن تخاض في سبيلها حرب كاملة، دون أن تضمن تحقيق النصر، كما تحقق.
– القضية في حساب المقاومة هي ببساطة، ضمان حظر مكافئ للحظر المفروض على لبنان في مجال استخراج الغاز والنفط، لضمان التوازن التفاوضي الذي تديره الدولة، ولا تريد المقاومة أن تكون طرفا فيه. وبعدما كانت المعادلة أن على لبنان التوصل الى اتفاق الترسيم حتى يتاح له البدء بالتنقيب وصولاً للاستخراج، بقوة الحظر الأميركي المبلّغ للشركات وعبرها للبنان، فيصير لبنان بين خياري الانتظار على الرصيف بينما العدو ينقب ويستخرج، أو يقبل بما يعرض عليه في الوساطة الأميركية الكاملة الشراكة مع “الإسرائيلي”، قامت الحرب النفسية للمقاومة على معادلة حظر مواز بقوة مسيّرات وصواريخ المقاومة، لتضع “الإسرائيلي” بين خيارات الانتظار الموازي للبنان على رصيف مشابه، أو الخوض في حرب حقيقية كانت المقاومة جادة في الاستعداد لخوض غمارها، أو القبول بترسيم بمعادلات أخرى، ترسيم يضطر الأميركي والإسرائيلي الى قبوله، لأن الفرق بين الحرب النفسية في مدرسة المقاومة والسيد نصرالله عن الحرب النفسية في المدرسة “الإسرائيلية”، هو أن المقاومة تخوض حربها النفسية تحت سقف خيارات تثق بأنها تملك جهوزية خوضها وتحمل تبعاتها وتحقيق أهدافها، بينما يخوض الإسرائيلي حربه النفسية تحت سقوف تفوق طاقته على تحقيقها وتحمل كلفتها، وهذا ما سبق وقالته حرب تموز 2006، عندما هدّد الإسرائيلي بسحق المقاومة واحتلال الجنوب مجدداً وفشل، ولم تتعهد المقاومة بمنعه من التوغل في أرض الجنوب، لكنها فعلت.
– المقاومة خاضت حرباً نفسية فازت عبرها بنتائج حرب كاملة، والدولة خاضت مفاوضات غير مباشرة، ضمنت عبرها ما كانت تطلبه وأكثر، فكما كان تفاهم نيسان عام 1996 أكثر تقدماً على المستوى السيادي من اتفاق الهدنة، جاء الاتفاق غير المباشر او إطار تقاسم الثروات الاقتصادية البحرية، أكثر تقدماً منهما على المستوى السيادي، والتقدم في المرتين بفضل قوة المقاومة، والاتفاق غير المباشر ليس وثيقة اتفاق بين حكومة لبنان و”حكومة إسرائيل” كما تنص اتفاقية الهدنة وينص تفاهم نيسان بتعابير أقل وضوحاً، ولا يتضمن توقيع من يمثل كل من “الحكومتين” كما في اتفاق الهدنة، ولا لجاناً مشتركة للمتابعة كما في اتفاق الهدنة وتفاهم نيسان، ولا ترتيبات في العمق السيادي اللبناني لصالح العدو كما في اتفاق الهدنة، ولا شراكات مالية ولا شبهة تطبيع، ولمن يطالبون بالخط 29 ويعتبرون التنازل عنه خيانة، نذكر بأن اتفاق الهدنة كرّس التنازل عن القرى السبع، لكن أحداً لم يعتبره خيانة، وفي كليهما كان التنازل ناتجاً عن أسبقية الوثيقة القانونية المانعة، ففي اتفاق الهدنة عدلت اتفاقية باولو نيو كامب حدود لبنان الكبير ونزعت منه القرى السبع واعتبرت أساساً للحدود الدولية وصارت مطالبة الدولة بها خسارة لمصداقيتها القانونية، وفي الحدود البحرية حدد المرسوم 6433 منذ العام 2011 الخط 23 بعدما كانت خطيئة اعتماد النقطة 1 مع قبرص عام 2007، ما عقد إمكانية السير بتعديل لاحق دون خسارة الدولة مصداقيتها، وفي الحالين يبقى الأفق مفتوحاً على المزيد من انتزاع الحقوق بتراكم المزيد من موازين القوى.
– في كل لحظة كان المفاوض اللبناني يقف بشجاعة ويهدد بوقف المفاوضات كان يعلم أن خلفه مقاومة جاهزة للحرب، وفي كل مرة كان يتمسك المفاوض بمطلب كان يعلم أن عدوه غير قادر على المخاطرة بفعل المثل، لأنه غير قادر على تحمّل ثمن حرب يعرف أن لبنان ومقاومته جاهزان لتحمل التبعات، لأنه بفعل الحصار لم يعد لديهما ما يخشيان خسارته.
– يجب ألا تضيع هذه اللحظة وسط الصراخ والغبار، وأن لا نكون كمن خرج من الحرب منتصراً وفي طريق العودة أطلق النار على قدمه بالخطأ، فضاع عن خط النهاية.