«الرابعة بتوقيت الفردوس»… الواقع يعود إلى أدوار البطولة السينمائية

سامر إسماعيل

استطاع المخرج محمد عبد العزيز في فيلمه الجديد «الرابعة بتوقيت الفردوس»، العودة بالسينما السورية إلى تلك النوعية من الأفلام التي تحاول تسجيل صورة الواقع، من دون محاولة تجميلها. وذلك عبر تطويره لغة سينمائية تخلّصت من شاعرية الصورة الباهظة، مسجلة موقفاً أخلاقياً وجمالياً من خلال الإطلالة على الزمن الراهن لمدينة دمشق.

الفيلم الذي أنتجته مؤخّراً «المؤسسة العامة للسينما»، وافتتح عرضه الأوّل في صالة «سينما سيتي»، لم يتخلَّ عن حضور الصورة كملمح أساسيّ من ملامح الفنّ السينمائيّ، من دون أن يهمل أنّ الفنّ السابع، فنّ زمنيّ قبل أن يكون فنّاً تشكيلياً له صبغة بصرية، إذ حاول المخرج عبد العزيز في هذا الفيلم الذي كتب له السيناريو بنفسه، أن يحقّق سينما تأويلية للحدث السوري الدائر منذ أكثر من أربع سنوات، وذلك عبر زمن الشريط الروائيّ الطويل الذي امتدّ على 120 دقيقة.

الشريط الأكثر مواكبة لتفاصيل الحياة السورية المعاصرة، مزج بحِرفية بين سبع قصص تقاطعت عبر لعبة مونتاجية عالية المستوى. لا من باب تكثيفها حكايات شخصيات الفيلم فحسب، بل عبر سيناريو ذكيّ تدور أحداثه في يوم واحد من حياة هذه الشخصيات في مدينة دمشق.

ويعرض فيلم «الرابعة بتوقيت الفردوس» لقطات مؤثرة وصادمة منذ مشاهده الافتتاحية التي تطلّ منها أفعى تتمدّد على جدران بيت عتيق في حيّ «ساروجا» الأثري، لنتعرّف إلى دمشق الزمن الراهن، عبر شخصية موسيقيّ سوريّ يقف إلى جانب بيانو يحترق، بينما تلتفّ الأفعى الصفراء على قضبان البيت المهجور.

افتتاحية رخيمة سيعود إليها مخرج الفيلم في مشهد ختاميّ رفيع المستوى لنتعرّف أكثر فأكثر إلى حكاية عائلة سورية من مدينة القامشلي، محمولة على عربة «حنطور» تقليدية، وتقلّ الزوج العامل وزوجته المريضة وطفلهما والجدّ المسنّ، يتحدثون بلغتهم الأمّ كسابقة في تاريخ السينما السورية.

جميعهم يجرّهم حصان يحتضر في رحلة آلام لا تنتهي. وهم في طريقهم إلى المستشفى، المكان الذي أفاد منه صاحب «نصف ميلليغرام نيكوتين» في مقاطعة لقصصه السبع التي نسجها على نول سينمائيّ، مقدّماً نماذج واقعية من راهن الناس ومعاناتهم.

الفتاة المصابة بالسرطان، والتي تجمعها قصة حبّ مع شخصية الموسيقيّ، تكاد تكون عموداً فقرياً للفيلم. وذلك عبر مَشاهد أنيقة من عناقات مخنوقة وحارقة بين الحبيبين على سرير الجرعات الكيمياوية. لينتهي هذا المشهد باقتحام الأب الذي أدّى دوره الفنان أسعد فضة، ليكون الجمهور أمام أداء استثنائيّ لكل من الممثلين نوار يوسف وسامر عمران، إذ ينتهي مشهدهما المؤثّر هذا، بلكمةٍ على وجه العشيق من الأب الغاضب، ومواجهة صادمة بين الفتاة وأبيها الذي ينتحر في ما بعد، مخلّفاً ملفّات خطيرة من دون معرفة مصير أصحابها.

سيكون للمخرج أكثر من عودة إلى هذا المستشفى مع وصول العائلة الفقيرة إليه بعد نفوق حصان العربة المحتضر. ليقرّر الزوج الشاب بيع كلْيته من أجل تدبّر مصاريف العلاج لزوجته. إذ يطلّ الفيلم بجرأة من خلال رحلة الزوج للبحث عمّن يشتري كلْيته على قاع المدينة وأسواقها ومتاهاتها الدمشقية، وصولاً إلى مشهد سينمائيّ يُقتل فيه الزوج الشاب طعناً بالسكين في أحد أنفاق المدينة، من دون أن يتمكن هو الآخر من الوصول إلى المستشفى، تماماً كحصانه الذي نفق ولم يكمل طريقه نحو المستشفى.

بدورها، شخصية راقصة الباليه في أوبرا «الأفعى والرمّان»، هي الأخرى تنتهي قصة حبّها الخاطفة مع الجنديّ على الحاجز. وذلك عندما تتعرّض سيارتها لتفجير إرهابيّ، فيغيّر القدر طريقها من المسرح إلى غرفة العناية المشدّدة. لكنّ المخرج يعيدها إلى الرقص في مشهد ختاميّ متخيَّل، مزيلاً عنها أنبوب الأوكسجين ومقصّات الأطباء تحت أضواء العملية الجراحية، نحو جسد مدمّى يرقص على أرضية مفروشة بحبّات الرمّان المنفرطة.

مساحة حلم يستعيرها عبد العزيز ليسرد لنا تاريخ يوم من حياة هذا الفردوس ـ المستشفى لتحضر أيضاً قصص حبّ جانبية قام بأدائها كل من الفنانين: كنان حميدان وهلا بدير وغفران خضور. فبدورهم، يجمعهم المستشفى في زيارتهم لصديقتهم المصابة بالمرض العضال، ولتفرّقهم بعدئذٍ مالات أحلامهم وسط مناكفات حبّ وفراق تبدأ صاخبة ومتمرّدة لتسكت مخنوقة وشاحبة.

ويعجز الشاب مجد عن إقناع أبيه عامل الرافعة بمغادرة البلاد مثلما لا يستطيع أحد إقناع المرأة الذاهبة لحضور حفل لعبد الحليم حافظ على مسرح المعرض بأنه مات، وبأن المسرح لم يعد موجوداً.

بالطبع، لا يسلّم مخرج الفيلم مفاتيح الفهم بسهولة لجمهوره. فمن خلال تدفّق الصوَر، يجري قدماً نحو لغة صور ذات إيقاع متسارع ورشيق من خلال فيلمية تكتسب سينمائيتها من تعبيرها عن الحياة نفسها، لا عن الأفكار. فهي في «الرابعة بتوقيت الفردوس» تصف الحدث تاركة الزمن يعيش داخل الصوَر من خلال شخصيات تخلق عالمها الداخلي اللافت، معيدةً بناء واقع مواز تبرز فيه خبرة المخرج في إدارة بارعة لممثل امتلك أدواته بعيداً عن الفهم التلفزيوني.

مغادرة المستشفى تأتي مع خروج الفتاة المريضة بالسرطان لتحقق «نبوءة كيوبيد» الدمشقي بسقوط «ثمرة الكباد» عليها وحبيبها في المشهد الأخير يجمعهما في «بحرة الماء»، تطفح بجسديهما الطافيين على الكادر الأخير.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى