الموسيقيّ ريتشارد فاغنر… الأسطورة والملحمة ألهمتا إبداعه الخالد 2/2
بنيت قصة الأوبرات حول ملكية خاتم سحري، مثل خاتم سليمان. الكل يطلبه، لكنه مقترن بلعنة تحل على من يملكه. كنز الذهب الذي صنع منه الخاتم كان مملوكا لعذارى نهر الراين، ثم سرقه قزم شرير. وبعدما تناولت ملكية الخاتم أيادي كثيرة، وقع في يد الفارس «سيغفريد» بعدما قتل التنين. في إحدى المغامرات، عبر «سيغفريد» حائط اللهب، لكي ينقذ «برونهيلدي» من السجن الصخري. أعطاها الخاتم، بأبطلت لعنته وأعادته إلى عذارى نهر الراين.
الأوبرات تحتوي على أساطير وحكايات متنوعة كثيرة. العواطف والانفعالات الإنسانية كلها تجدها معبّرة بالموسيقى. كما أن مشاهدها على المسرح تضاعف من سحرها وجلالها. لا شئ يعادل مشاهدة هذا العمل الرائع حياً على المسرح.
يصف «فاغنر» موسيقاه التي وضعها في هذا العمل الجبار بأنها موسيقى المستقبل. استغرق تأليفها عشرين سنة من عمر «فاغنر» بالتمام والكمال.
لم يكن يؤلف باستمرار، إذ لم يكن هناك ما يشجع على التأليف. لم تكن لديه بارقة أمل في عرض ملحمته العظيمة هذه على العالم الخارجي.
فيما كان «فاغنر» يؤلف رباعيته «خاتم نيوبلونغز»، بات شغوفاً بأسطورة «تريستان وأيزولدة». فلحّن بناء على هذه الأسطورة أوبرا عظيمة بالعنوان نفسه. وبينما كان هارباً في سويسرا نمت صداقته مع فرانز ليست الذي ساعده في الهرب، وكان دائم الزيارة له. كانا يقومان معاً بالرحلات عبر الجبال. وبعد ذلك بعدة سنوات، أثناء مأدبة عشاء في ميونخ، أقيمت لتكريم «فاغنر»، قال «ليست»: «تكريم فاغنر هو كل ما أروم. فأنا لا أطمع في شئ لي أو لأعمالي». كان «فرانز ليست» الصديق الوفي لفاغنر. كان يعزف موسيقاه دامع العينين. كان يعرف قيمة موسيقى «فاغنر» الفريدة الآتية من عالم آخر، بينما العالم الذي نعيش فيه كان في شك وحيرة من أمره.
عام 1850 عرض «ليست» أوبرا «لوهينغرين»، فايمار. أصيب بالأسى حين لم يستقبلها الجمهور بالحماسة التي تستحقها. مضت سنوات عديدة قبل أن يشاهدها «فاغنر» نفسه على المسرح. وكان يقول: «جميع الألمان تقريباً شاهدوها إلاّ أنا». لكن «فاغنر»، قوبل بودّ شديد في إنكلترا. عام 1855 قاد الأوركسترا الفيلهارمونية هناك. لكن مواطنوه وأهله وعشيرته الألمان لم يعجبوا بموسيقاه إلا في وقت متأخر من حياته.
مع الوقت، بدأت «لوهينغرين» تجذب معجبين. بينهم وأكثرهم حماسة، «لودفيغ» الشاب ملك بافاريا. كان يتخفى في ملابس الفارس البجعة ويركب قارباً في شكل بجعة لعدة ساعات. عندما علم بإحباط «فاغنر»، قرر أن يكون راعيه، ثم استدعى الموسيقي إلى بلاطه في مدينة ميونخ. سر الملك لاستقباله. أعطاه منزلاً وراتباً سنوياً. عام 1865 عرض «ترستان وإيزولدة» على مسرح البلاط الملكي. لكن الحساد تدخلوا في عمله، فقرر الذهاب إلى «لوسيرين» لكي يعيش ويعمل هناك في خدمة راعية الملك.
هناك لحن «ماسترسينغرز»، أوبرا فكاهية تصور الحياة المرحة أيام زمان عندما كان ثمن الفوز بالحب أغنية «ماسترسونغ».
في قصة الأوبرا، الفارس النبيل «والتر»، جاء إلى «نوريمبورغ»، لخطبة الرقيقة «إيفا». أوحت له الطيور لحناً غنائياً. لكن كيف يتسنى له النجاح في مباراة غنائية يكون الحكم فيها على مدى الالتزام بالقواعد والأصول الموسيقية؟ لكنه في النهاية يفوز بيد حبيبته بأغنية عفوية.
عرضت أوبرا «ماسترسنغرز» في ميونخ عام 1868. بعد ذلك أضحى الألمان متحمسين لأوبرات «فاغنر». كانت زوجته توفت قبل عدة سنوات. عام 1870 تزوج «فاغنر» من «فراو»، أرملة الموسيقي «بولو»، وابنة «فرانز ليست». يقال أنه كانت بينهما علاقة غرامية أثناء زواجها السابق.
بعدما أكمل «فاغنر» ملحمته «الخاتم» قرر عرضها في مكان يناسبها. لذلك وجه نداءً إلى العالم أجمع ليساعده في بناء دار أوبرا اختار مكانها مدينة «بايرويت».
عام 1872 وضع حجر الأساس في احتفال كبير عرضت فيه سيمفونية «بيتهوفن التاسعة». كان تصميم دار الأوبرا، بحيث تكون صفوف المقاعد صفاً أعلى من صف كي يرى الجميع العرض بوضوح. وفيها أيضاً قاعة لعرض الصور، ومكان خفي للأوركسترا. ولدى بنائها عام 1876، أمست هدفاً لجميع عشاق الموسيقى من أرجاء العالم، يأتون إليها، لمشاهدة العرض الأول ل أوبرا «الخاتم». حتى امبراطور ألمانيا، «لودفيغ الثاني»، كان حاضراً.
وضع «فاغنر» بنفسه جميع التفاصيل الدقيقة الخاصة بالتمرين والملابس واللوحات. كانت الأوركسترا تتبعإشاراته وإيماءاته ونظراته، كذلك المغنون والممثلون وراقصو الباليه بدقة متناهية. كان هذا العرض أول نصر عظيم لفاغنر. توج بالفخار وأكاليل الغار. منذ ذلك الحين، بدأت شهرته تكبر، يوماً فآخر.
آخر عمل لفاغنر، كان أوبرا «بارسيفال». عام 1882. عمل ديني عن «الكأس المقدسة». وهي أصعب أعماله فهماً. يعتمد النص على أسطورة مسيحية من القرن الثالث عشر حول مغامرات فارس يبحث عن الكأس المقدسة.
تصور الأوبرا الصراع بين المسيحية والوثنية، بين الخير والشر، بين النور والظلام. لذلك، اعتبرها الفيلسوف نيتشه عملاً خبيثاً. جعلت «فاغنر» من وجهة نظر «نيتشه» يسقط في أحضان الفكر الظلامي الديني، بعدما كان يعتبره رمزا للتحرر والثورة على الظلم والعبودية.
في مدينة «بايرويت»، بني «فاغنر» لنفسه بيتاً جميلاً، سماه «وينفريد». كتب عنه: «هنا، حيث ترقد أحلامي في سلام، أسمي منزلي سلام الأحلام». في هذا المنزل كانت زوجته «فراو» وأولاده والموسيقى. أطلق اسم «سيغفريد» على ابنه الأكبر، وهو اسم البطل الأسطوري المفضل لديه. عام 1882، مع بداية المشاكل الصحية، كان مضطراً إلى الانتقال إلى أيطاليا ليعيش هناك.
أقامت أسرة «فاغنر» في البندقية. هناك كان الموسيقي الكبير معبود الجماهير، ثريّها وفقيرها. وهناك توفى فجأة عام 1883م. لم تشهد إيطاليا حزناً على وفاة عزيز مثل هذا الحزن، منذ وفاة البطل القومي «غاريبالدي». حُمل جثمان «فاغنر» عائدا إلى «بايرويت»، ليدفن في قبو في حديقة منزله، على موسيقى المارش الجنائزي من أوبرا «سيغفريد».
وضع حجر يبين مكان دفنه، بجواره علامة أخرى تبين مكان دفن كلبه العزيز، دُوّن عليها: «هنا يرقد في سلام الحارس الأمين والصديق الوفي، مارك».
عبقرية «فاغنر» الطاغية لازالت تحلق في سماء «بايرويت» حيث توجد دار الأوبرا التي هي بمثابة معبد موسيقى المستقبل. في كل احتفالية يتجمع محبو الموسيقى من أنحاء العالم. فتتزين المدينة بأبهى حليها لكي تحتفل بضيوفها الكرام.
كان «فاغنر» مثابراً صبوراً شجاعاً. أمضى معظم وقته في محاولة جعل العالم يفهمه ويعترف به. كان يعتقد في البداية أنه شاعر، ثم تحوّل للموسيقى يكتب بها الشعر. كتب عدة أعمال أدبية. ويعتبر أعظم عبقري موسيقي ظهر بعد «بيتهوفن». كان يؤمن بأن المسرح هو مكان للأعمال الفكرية لا التافهة.
لكي نفهم موسيقى «فاغنر»، يجب أن نستمع إليها مراراً وتكراراً. أوبراه لا تعتمد على الأغاني والدويتو، المشدودة بخيط السرد والكلام، بل يستخدم أسلوب الدافع الرئيسي. بأي يعطي كل شخصية اللحن المناسب.
في الواقع، ثمة لحن لكل مناسبة عاطفية وكل خلجة أو شجن. هناك ظلال بدرجات متفاوتة لكل لحن. كانت لديه قدرة عجيبة على اللعب بهذه الألحان ومزجها في ميلودياً لا تنتهي. والأوركسترا، صادقة، تعكس كل صغيرة وكبيرة تحصل على المسرح. لكل تغيير للمشهد، كل إيماءة أو التفاتة، صداها الموسيقي. مزج بخياله المتقد الشعر والموسيقى والحركة والإيماءات، ليطلع بتعابير مختلفة تخدم العمل الدرامي. رفع الدراما الغنائية إلى مستوى السيمفونية.
حدث في عصره جدال كبير حول موسيقاه. لكن أليس كل إصلاح وتطوير يرافقه جدال ورفض؟ عظمة «فاغنر» تتجلى أكثر فأكثر لدى هؤلاء الذين يعطون أنفسهم إجازة من جمال أغاني الأوبرا الميلودية.
لكي يستمتعوا بجلال الميلوديا التي لا تنتهي، فبدلاً من التمتع بجزر منعزلة من الأغاني الفردية والجماعية، تكون المتعة أكبر في العمل كله، كوحدة متكاملة.