من التطبيع إلى الدمج
} سعادة مصطفى أرشيد*
راودت فكرة فتح طريق مائيّ يربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط قدماء المصريين، وذلك بحفر قناة تربط البحر الأحمر بنهر النيل وصولاً إلى المتوسط، ومثلت إحدى ركائز الاستراتيجية المصرية باحتكارها للتجارة الآتية من الشرق البعيد بطريق أسرع وأقلّ كلفة ويدعم من موقع مصر، ولكن كان على الفكرة أنّ تنتظر آلاف السنين، حتى غزو نابليون لمصر، الذي قرع أجراس الحداثة وأعاد الاهتمام والصراع من العالم الجديد إلى العالم القديم، الذي احتاج إلى إعادة اكتشافه من خلال الاستشراق والمشاريع، والتي كان أهمّها مشروع حفر قناة السويس، التي اعتبرت من عجائب الدنيا واختصرت الطريق الطويل بين أوروبا والشرق البعيد الذي كان مضطراً للالتفاف حول رأس الرجاء الصالح.
لكن هذا المشروع (قناة السويس) الذي حلّ مشاكل المواصلات لأوروبا، ما لبث أن أصبح مشكلة لمصر والشرق، فمن جانب فشلت مصر في إدارته ورعايته وتورّطت بالاستدانة التي كانت مدخلاً للهيمنة عليها، ومن جانب آخر كانت حماية القناة من الشرق تتطلّب إيجاد كيان غريب ومعادٍ للمنطقة يقوم بأعمال الحراسة ويكون عنصراً يمنع الوحدة والاتصال بين سورية ومصر، فكانت البذرة الشيطانية (إسرائيل).
تحوّلت قناة السويس من نعمة لمصر والشرق لتصبح نقمة، فأدّت الى احتلال مصر من قبل الإنجليز عام 1882، ثم إلى العدوان الثلاثي إثر تأميمها عام 1956، وكانت الشرارة التي أشعلت حرب 1967، والتي لا زلنا نعيش تداعياتها، ويبدو أننا سنعاني لفترة ليست بالقصيرة، فقد تسبّبت بأن يتداعى الأمن القومي للإقليم بأسره، وأن يُستبدل بأمن النظام ثم بأمن الرئيس الحاكم، ومن النماذج الواضحة نرى ذلك في تنازل مصر السيسية عن جزيرتي تيران وصنافير ومضائقهما للسعودية، وكان إغلاق تلك المضائق هو السبب المباشر لحرب 1967، وهذه المضائق قد تحوّلت اليوم إلى مضائق سعودية يسري عليها قانون المضائق وأعالي البحار.
في الأعوام الماضية أخذت حوادث جنوح السفن تتكرّر في القناة، مما أدّى إلى تعطيل المرور وتأخير السفن المنتظرة بطوابير، عدا عن أنّ السفن المتوسطة والضخمة لم تعُد تستطيع الإبحار في القناة بسبب حجمها، مما يضطرها للدوران حول أفريقيا، فيما المرور بالقناة هو من خط واحد يخصص يوم للسفن المبحرة من البحر الأحمر للمتوسط واليوم الآخر بالعكس.
قبل سنوات؛ تحدّث الإعلام (الإسرائيلي) عن مشروع حفر قناة موازية لقناة السويس تربط البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر، لكن إثر نقل السيادة المصرية على جزيرتي تيران وصنيفير إلى السيادة السعودية تسارع الحديث عن المشروع، إلى أن أعلن قبل أيام عن الشروع بأعمال الحفر من ناحيتين، واحدة بالقرب من إيلات والأخرى بجوار ميناء أسدود على البحر المتوسط، وذكرت تفاصيل العمل أنّ القناة ستكون مزدوجة، واحدة للسفن الآتية من المتوسط للبحر الأحمر وأخرى منفصلة عنها بالعكس منها، وستكون القناة أكثر عرضاً وسعة من قناة السويس، بحيث تتسع لأكبر السفن وناقلات النفط حجماً في العالم، حيث توفر الوقت وتختصر المسافة.
يرافق المشروع بناء مدن صناعية وترفيهية ومناطق حرة على طول ضفتي القناة، وفيها من أكثر أنظمة الأمن والحماية تطوّراً في العالم، وتقدّر الدراسات أنه من الممكن أن يتمّ إنجاز المشروع بعد خمس سنوات من الآن، وسيعمل به مئات ألوف العمال والمهندسين والفنيين من دول الجوار ومن الشرق الأقصى، كما تساهم في إنجازه شركات من كوريا وأوروبا والولايات المتحدة، فيما تموّله بنوك أميركية بفائدة متناهية الصغر(1%).
المشروع هو في قلب الأفكار المتداولة مؤخراً من الشرق الأوسط الجديد وصفقة القرن، التي يظنّ بعض من يتوهّم أنها قد انتهت مع مغادرة ترامب للبيت الأبيض، وهي مرتبطة بالطموحات التي يجهر بها ولي العهد السعودي في بنائه لمدينة نيوم، التي إنْ صدقت الأخبار ستجعل من دبي مدينة من الماضي.
كلّ هذه المشاريع تهدف إلى دمج (إسرائيل) في كلّ تفاصيل الإقليم، من شبكات الطرق إلى سياسات البيئة والأمن والإقتصاد والطاقة، لا بل جعلها العامل الأساسي والحيوي الذي يقود الإقليم، فيما لن تجدي تهديدات مصر ـ إنْ هدّدت ـ بوقف المشروع، أما المسألة الفلسطينية، فإنها ستذهب نحو مزيد من التهميش أمام المصالح المادية الجديدة الناتجة عن دمج (إسرائيل) وجعلها «كياناً طبيعياً».
*سياسي فلسطيني
مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة.