ما مبرّر بقاء المقاومة وسلاحها بعد الترسيم البحري؟
د. عدنان نجيب الدين
ليس الكيان “الإسرائيلي” الغاصب لفلسطين كياناً طبيعياً بل هو كيان توسعي يريد بسط سيطرته على امتداد المنطقة العربية ما بين نهري النيل والفرات، وهذا ما جسّده في علمه الذي رمز فيه إلى هذين النهرين بخطين أزرقين تتوسطهما “نجمة داود”. وقد عمد الى احتلال كلّ الأرض الفلسطينية ضارباً بعرض الحائط القرارات الأممية بعد أن ارتكبت عصاباته مجازر بحق الشعب الفلسطيني، وشنّ أكثر من حرب على الدول العربية المجاورة لكيانه، مدعوماً بقوى الهيمنة الغربية واقتطع ما استطاع من أراض عربية في سيناء والجولان ثم في لبنان لاحقا، ولم تنجح كل القرارت الدولية في إجباره على الانسحاب منها، وجاءت حرب تشرين التحريرية عام 1973 واجبرته على التراجع بضع كيلومترات إلى أن تم التوقيع على اتفاق كامب ديفيد مع مصر الذي أفضى الى انسحابه من شبه جزيىة سيناء بشروط قاسية إنتقصت من السيادة المصرية عليها، ثم جاءت اتفاقية اوسلو التي نصت على اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بحق ” اسرائيل” بالوجود على أرض فلسطين مقابل انسحابها من الضفة الغربية وقطاع غزة. ولم تنفع هذه الاتفاقية بين السلطة الفلسطينية والعدو الإسرائيلي في تحرير الضفة والقطاع، بل راح الكيان الغاصب يبني المستعمرات بأعداد كبيرة على أرض ما اصطلح على تسميتها بالدولة الفلسطينية الموعودة..
وقد خاض الشعب الفلسطيني مقاومة بطلة في وجه العدو وما زال العدوان عليه يشتد شراسة ويقتل ويسجن الآلاف من الشعب الفلسطيني لا لشيء سوى لتثبيت دعائم احتلاله وإجبار الفلسطينيين على التسليم له بحقه بالوجود على أرضهم والقبول بالتخلي عن ما تبقى من أرض فلسطين وتهجيرفلسطينيي الضفة والقطاع وداخل أراض ال 48 إلى أماكن أخرى تنفيذا لما سمي بصفقة القرن.
وفي عام 1978غزت “إسرائيل” جنوب لبنان، وكرّرت ذلك في العام 1982وصولا إلى العاصمة بيروت بهدف طرد المقاومة الفلسطينية من لبنان ونجحت في ذلك , وهنا حصل لها ما لم يكن تتوقعه، فبدأت تواجه شبانا وطنيين لبنانيين يتصدون لها، أثناء هجومها وصولا الى العاصمة بيروت. وكانت عملية التصدي لقواتها في خلدة، وعملية مقهى الويمبي في شارع الحمراء، وبدأت تنشط حركة مقاومة تهاجم المواقع والنقاط التي تواجد العدو فيها، وبدأت العمليات الاستشهادية من الشهيد أحمد قصير الذي اجتاح بمركبته المحملة بالمتفجرات موقع قيادة جيش الاحتلال في صور فأدت إلى مقتل أكثر من مئة جندي وضابط إسرائيلي، مرورا بعملية الشهيد حسن قصير على الطريق الساحلي في الجنوب وعملية المناضلة سناء محيدلي والمناضلة سهى بشارة وعملية صلاح غندور، ونفذت عشرات العملية الأخرى التي شاركت فيها مختلف التنظيمات والفصائل الوطنية اللبنانية، فاضطر إلى الانسحاب من بيروت وصيدا وصور والنبطية، لكنه بقي محتلا منطقة الشريط الحدودي يعاونه عملاء ما سمي بجيش لبنان الجنوبي بانتظار أن يستسلم لبنان ويعترف بكيانه الغاصب ويعقد معه اتفاقية صلح وسلام. وكانت الأمم المتحدة أصدرت في العام 1978 القرار رقم 425 تطلب فيه من العدو الانسحاب من الأراضي اللبنانية لكنه كعادته يتحدى قرارتها ولا ينفذها طالما هو مدعوم من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. مع الاشارة الى ان هذه الدول كانت لا تنفك تعلن في كل مناسبة عن دعمها للدولة اللبنانية ولسيادتها على أراضيها، لكن هذا الدعم لم يترجم مرة واحدة ترجمة عملية ولم تجبر العدو على الانسحاب من لبنان، بينما كانت تتغاضى عن اعتداءات الاحتلال على المدنيين اللبنانيين فتقصف أراضيهم وبيوتهم وتقتل وتخطف العديد من آبنائهم، وذلك منذ احتلاله لفلسطين، ولم تستطع الدولة اللبنانية فعل اي شيء لردعه عن ارتكاب جرائمه لعجزها عن مواجهته.
لكن الشعب اللبناني اضطر لان يدافع عن نفسه بنفسه، فقرر المواجهة بقوة وإرادة وتخطيط، وعمل على تنظيم صفوفه وشمر عن ساعده للمنازلة العسكرية التي اتخذت طابع الصراع الوجودي مع هذه العدو…وشياء فشيئا، اشتد عضد المقاومة بدعم من الشقيقة الجارة سورية ومن جمهورية إيران الإسلامية التي نص دستورها على عدم الاعتراف بهذا الكيان الغاصب وعلى دعم الشعب الفلسطيني لتحرير أرضه المحتلة وطرد الصهاينة منها وصولا إلى تحرير القدس الشريف. كما نص على دعم مقاومة اي شعب يواجه احتلالا أجنبيا ودعم المستضعفين في اي مكان.
وكان من نتيجة هذا الدعم من إيران وسوريا أن تفاقم خطر المقاومة اللبنانية على جيش العدو وباتت حكومته، نتيجة الخسائر البشرية التي يتكبدها على ايدي المقاومين في صفوف هذا الجيش، تواجه ضغطا من المستوطنين الصهاينة في فلسطين للانسحاب من لبنان وتوفير هذه الخسائر في الأرواح وحقن دماء أبنائهم. فكان تحرير الجنوب عام 2000 , واستعاد لبنان أرضه المحتلة من براثن العدو بلا قيد ولا شرط وبدون أن يعقد معه اي اتفاقية تعترف بكيانه وبشرعية وجوده على أرض فلسطين.
ولعل المقاومة في لبنان كانت من اشرف المقاومات على الكرة الأرضية، فلم تقم، بعد التحرير، بممارسة أي أعمال عنفية أو انتقامية ممن تعاملوا مع العدو واعانوه على احتلال الأرض اللبنانية وقتلوا مواطنيهم ونكلوا بهم، وكانوا راس حربة بيديه.
وفي حين تذكر لنا كتب التاريخ ما فعله المقاومون الفرنسيون بالعملاء بعد التحرير من الاحتلال النازي وكيف نكلوا بكل الذين كانوا متعاونين معه، ونفذوا بحقهم اعدامات ميدانية.وهذا ما لم تفعله المقاومة في لبنان بل تركت للدولة ممارسة حقها بممارسة سيادتها على ارضها وتركت القانون يأخذ مجراه.
وهنا لا بد من التذكير انه بعد التحرير، راح بعض اللبنانيين ممن ازعجهم إنجاز التحرير على أيدي المقاومة يطرحون الأسئلة عن جدوى بقاء المقاومة وسلاحها بعد
اندحار جيش الاحتلال عن أرضنا. وكان رد المقاومة وقائدها السيد حسن نصر الله بالسؤال عمن يضمن ألا يعتدي العدو مجددا على لبنان ويحتل أرضنا ويقتل شعبنا ويدمر بيوتنا ويصادر ممتلكاتنا ؟ فالذي استباح أرض فلسطين واحتلها وطرد شعبها منها، هو عدو غادر لا يؤمن جانبه، لذلك لن نسلم سلاحنا ونتخلى عن مقاومتنا في ظل دولة عاجزة عن حماية شعبها. إنه عدو توسعي يطمع بأرضنا ومياهنا وثرواتنا. ثم ماذا عن بعض الأراضي التي ما زالت محتلة ؟وماذا عن بقاء اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ولم يسمح لهم بالعودة إلى بلدهم ؟ وماذا عن الاسرى اللبنانيين في معتقلات العدو، أليس واجبا علينا تحريرهم وهم الذين تحملوا من الاحتلال وعملائه كل الوان العذاب والتنكيل نيابة عن كل اللبنانيين ؟
لقد كانت وصية الشهداء لنا حفظ المقاومة، وسنحفظ الوصية.
وكان يأتي الجواب ممن لم يكن لهم شرف المساهمة في معارك تحرير لبنان من الاحتلال ولم يقدموا أبناءهم شهداء على مذبح تحرير الوطن، يأتي جوابهم على خطاب المقاومة المدعوم بالحجج الدامغة، : الجيش اللبناني هو من سيقوم بمهمة الدفاع عن لبنان. وكانت المقاومة ترد دائما أنها تفخر بجيشنا اللبناني البطل، بجنوده وضباطه وقياداته، تفخر ببطولاته وتضحياته، ولكن هل تستطيع الدولة اللبنانية او هل يسمح لها بتجهيزه بما يلزم من سلاح وعتاد ؟ وبالتحديد هل تقبل الولايات المتحدة بتسليح الجيش اللبناني بالأسلحة الثقيلة الرادعة لعدوان حليفتها واداتها “اسرائيل” التي تريد ان يبقى جيشها اقوى من كل الجيوش العربية مجتمعة ؟
أن طريقة عمل المقاومة تختلف عن طريقة عمل الجيوش الكلاسيكية، ولذلك انتصرت على العدو واجبرته على الانسحاب من لبنان
وجاء عدوان عام 2006 ليؤكد نظرية المقاومة، فبعد عملية أسر جنود إسرائيليين لمقدبادلتهم بالأسرى اللبنانيين الذين استمر العدو باعتقالهم بعد التحرير، ليتأكد الجميع أن سلاح المقاومة هو الذي ردع العدوان وحرر الاسرى وافشل مشروعه الذي رسمته له أميركا وهو مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يرمي الى اخضاع المنطقة للهيمنة الإسرائيلية وتجريد لبنان من مقاومته وقوته التي تقف إلى جانب جيشها الباسل في الدفاع عن لبنان…
وكانت هزيمة العدو مدوية ولم يجرؤ من وقتها عن شن اي حرب جديدة على لبنان.
وليس غريبا أن يكون للمقاومة حلفاء يدعمونها، فما من مقاومة نشأت في التاريخ ضد عدو محتل إلا وكانت تتلقى دعما خارجيا، إما لتقاطع المصالح معها، واما لتوافق المبادئ بدعم حق الشعوب بارضها وسيادتها عليها. والمقاومة حق مشروع لأي شعب تحتل أرضه أو جرى تهديده من قبل قوة خارجية وهذا ما نصت عليه شرعة الأمم والشرائع السماوية.
فالمقاومة الفرنسية حصلت على دعم أميركي وبريطاني، والمقاومة الفيتنامية حصلت على دعم الصين والاتحاد السوفييتي، والمقاومة الجزائرية حصلت على دعم مصر جمال عبد الناصر، واليوم تحصل اوكرانيا على دعم اميركا وكل دول الغرب وتقدم لها الاموال وكل انواع الأسلحة. فلماذا تكون المقاومة اللبنانية أو الفلسطينية استثناء، فنعيب عليهما تلقيهما دعما من إيران ؟ علما انهما لو حصلتا على دعم مالي او عسكري من اي دولة عربية لكان الأمر مرحبا به بل مطلوبا، لان القيام بواجب الدعم أمر يستحق التقدير والاحترام. اما الادعاء بأن المقاومة تعمل لمصالح خارجية فالجواب الواضح و الصريح هو أن أرض الجنوب التي حررتها المقاومة هي أرض لبنانية وليست أرضا أجنبية، ودفاعها عن أهلها وشعبها هو دفاع مشروع، والثروة البحرية التي كان لها إسهام حاسم في تحريرها هي ثروة لبنانية وتعود مردوداتها المالية على كل الشعب اللبناني.
لذلك نقول : إلى أن يأتي الوقت الذي تقوم فيه عندنا دولة حقيقية يقودها رجال دولة سياديون حقيقيون لا يخافون من عقوبات أميركية، ولا يخشون على مصالحهم الشخصية ولا على أرصدتهم المالية في البنوك الغربية، ويضعون مصالح لبنان اولا، ولا يأمرهم اويحركهم سفير هذه الدولة او تلك، عندما تقوم مثل هذه الدولة القادرة على رعاية شعبها والسهر على مصالحه وقادرة على أخذ القرار الجريء بالعمل على تزويد الجيش بالأسلحة الحديثة الرادعة لإسرائيل من اي مصدر كان، وعندما يطمئن ابناء شعبنا إلى قوة دولتهم وقدرتها على حمايتهم وحماية أرضهم وبيوتهم وممتلكاتهم، ومنع العدو من إعادة احتلال أرضنا، وعلى القدرة على حماية ثرواتنا، وعندما تتحدد بشكل رسمي قاطع الاستراتيجية الدفاعية التي تطالب المقاومة ببلورتها وإقرارها، عندها سيكتشف المشككون أن قوة المقاومة وقوة الجيش اللبناني هما جناحا الدفاع عن لبنان وعن امنه ومصالحه وحماية ثرواته والزود عن سيادته. وتلك الاستراتيجية الدفاعية تجسدت مؤخرا عمليا في معركة تحرير الجرود عام 2017، ومعركة تحرير الجزء الأكبر من ثروتنا النفطية والغازية في مياهنا الاقتصادية الجنوبية في تشرين عام 2022
لقد اثبتت كل المواجهات العسكرية مع جيش الكيان الغاصب المدعوم من الولايات المتحدة الأميركية وحلف شمال الأطلسي أن معركة ردعه ومواجهته وافشال مشاريعه في سرقة ثرواتنا والتعدي على سيادتنا لن يكتب لها النجاح إلا بوحدة الجيش والشعب والمقاومة، ولنا في هذه التجربة اللبنانية الفريدة من نوعها في العالم خير دليل وبرهان على ما نقول.
وهنا قد يطرح البعض سؤالا : لماذا لا نطبع مع هذا الكيان ونعقد معه صلحا ومعاهدة سلام فنتجنب حروبا مستقبلية معه ؟ ونجيب : إن اي اعتراف بشرعية كيان غاصب لأرض عربية بعد ان طرد منها شعبها، يعني اعترافا من جانبنا بحقه مستقبلا بالاعتداء علينا واغتصاب أرضنا وتسليمنا له بحق طردنا من أرضنا. فهل هناك لبناني عاقل يرضى بذلك؟
زد على ذلك، إن معاهدات الصلح تبرم عادة بين دولتين طبيعيتين، فهل الكيان الغاصب دولة طبيعية ؟ ام انه كيان اصطناعي انشأته قوى استعمارية في منطقتنا لخدمة مصالحها، فجاءت باعداد من اليهود الصهاينة فكونوا عصابات إرهابية ارتكبوا المجازر بحق الشعب الفلسطيني واحتلوا أرضه وطردوه منها ؟
المنطق يقول، والأخلاق والإنسانية والوطنية تحتم علينا عدم مجرد التفكير بهذا الأمر اي الصلح والتطبيع، وأن نتحد جميعنا شعبا وجيشا ومقاومة لحماية وطننا، وهذه المعادلة ستبقى طالما بقي خطر هذا الاحتلال قائما، بل طالما بقي هذا الكيان المؤقت موجودا على حدودنا وفي داخل فلسطين لأن وجوده شر مطلق، ومقاومة الشر واجب منطقي وأخلاقي وإنساني… وكل ما يقال عن تسويات او تفاهمات إقليمية أو دولية بعد ترسيم الحقول البحرية في الجنوب، لن يمس المقاومة بسوء، بل سيعزز دورها ولن ينهيه أو يحد منه بعد أن ثبت جدواها وضرورة وجودها لكونها حركة تحريرية شجاعة وقادرة ونبيلة وكذلك عاقلة وحكيمة.
واذا اعتبر البعض ان الترسيم البحري رتب قيام هدنة بين طرفين عدوين هما لبنان و”اسرائيل”، فهذا لا يعني انتهاء الحرب بينهما، وكما هو معروف لا تحل الدول المتحاربة جيوشها وتسرح جنودها لمجرد عقد هدنة بين الاطراف المتحاربة، بل على العكس من ذلك يعزز كل طرف قوته تحسبا لما قد يأتي ومنعا لوقوع اي مفاجأة، خاصة وان الاسباب الموضوعية للصراع لا زالت كما هي ومن دون أي تغيير حقيقي. لذلك نقول ستبقى المقاومة على سلاحها سدا منيعا في وجه العدو لان مهمتها مع جيشنا الباسل حماية الوطن وكرامة شعبه الابي.