كيف يخرج لبنان من مأزق الفراغ ومخاطر الانهيار؟
} العميد د. أمين محمد حطيط*
منذ شهرين تقريباً يتكرّر فشل مجلس النواب اللبناني في انتخاب رئيس جمهورية في لبنان ما أدخل الدولة في فراغ رئاسي بات مألوفاً ويتكرّر للمرة الثالثة على التوالي منذ العام 2007، فراغ لا يبدو أنّ حلّ معضلته ممكن في المدى المنظور نظراً لطبيعة النظام اللبناني وتعقيداته التي تمنع الانسياب السلس لعمليات إعادة تكوين السلطة او إصلاحها بشكل هيّن دون عوائق. واقع جعل المهتمّين بالشأن يطرحون الأسئلة حول طبيعة العوامل الأساسية المعتمَدة في إعادة تشكيل السلطة وحول إمكانية استجابة الحلّ لمقتضيات المسار الإصلاحي اللازم لبناء دولة عصرية متطورة قادرة وعادلة. فما هي الإجابات على هذه التساؤلات؟
لو عدنا الى القواعد والأصول الدستورية والسياسية الصحيحة لوجدنا انّ الأصل في تشكيل السلطة في بلد مستقلّ متجانس ديمقراطي النظام يكون بالاحتكام الى إرادة الشعب عبر الانتخاب لاختيار أشخاص الحكام وعبر الاستفتاء في القضايا الهامة لتحديد طبيعة وهوية النظام والعناوين الكبرى والأساسية فيه، لكن غياب التجانس الشعبي وتخلف إرادة الاستقلال الحقيقي وتشكل التعددية وقيام التبعية للخارج كما هو حال لبنان في ظلّ نظامه الممارَس القائم، يجعل من الديمقراطية المُدّعاة شعاراً فارغ المضمون ويجعل من الإرادة الشعبية عاملاً محدود التأثير وليس عامل الحسم في المسألة وباتت إعادة تشكيل السلطة في لبنان في الواقع خاضعة لقرار وتأثير فئتين من العوامل: فئة العوامل الداخلية وظروفها وفئة العوامل الخارجية وحيثياتها وقدراتها.
ولكلّ من الفئتين ورغم تفاوت التأثير في الواقع اللبناني وتبدّله وفقاً للظروف، لكلّ منهما دور مؤكد الوجود والفعالية كما أنه من المؤكد انّ أيّاً من الفئتين لا تستطيع ان تنفي او تلغي او تحجب الأخرى فلا العوامل الخارجية قادرة على فرض الحاكم استقلالاً عن كلّ الداخل او تشكيل السلطة بمعزل عن اتجاهات الداخل، ولا الفئات اللبنانية في الداخل قادرة راهناً على التخطي الكلي للمؤثرات الخارجية في تشكيل السلطة والاطمئنان الى حكم آمن مستقرّ، وهنا يكمن مأزق لبنان الحقيقي ويشتدّ هول هذا المأزق عندما نجد قسماً كبيراً من الأطراف الخارجية المؤثرة يجد مصلحته في تعطيل السلطة والدفع نحو الانهيار متكئاً في ذلك أو يعاونه أو يسهّل لسياسته أطراف في الداخل يحملون الجنسية اللبنانية ثم يدّعون أنهم سياديون.
ويزيد من حراجة الموقف هذا انتفاء القدرة عند الأطراف اللبنانية الأخرى على تجاوز تلك الفئة والاحتكام الى الأكثرية الشعبية كما هو الحال في الأنظمة الديمقراطية السليمة، هذا إذا تمكن أحد الأطراف من امتلاك هذه الأكثرية. لذلك لا يكون مناص في هذا الحالة من الحوار والتفاهم حول حلّ يرضى به القسم الأكبر انْ لم يكن جميع اللبنانيين في ظلّ أحكام الدستور النافذ، وهو حوار يبدو للأسف بعيد المنال لأنّ الأطراف الخارجية التي تستثمر بالفراغ وتدفع نحو الانحلال لا تريد الحوار الآن ولا تريد حلّ معضلة إعادة تشكيل السلطة إلا وفقاً لما تريد هي أو تؤجّل الحلّ حتى إشعار آخر يكون لها مناسباً بشكل أفضل.
يتشكّل هذا الواقع أو لنقل تلك المخاطر بسبب طبيعة النظام اللبناني الذي هو في الحقيقة قائم على فيدرالية الطوائف، يروّج لها بالديمقراطية التوافقية او يبتدع لها ضوابط من قبيل القول بالميثاقية. توافقية وميثاقية كلها تفرغ النظام الديمقراطي من محتواه وتعطل قرار الأكثرية الشعبية وتمنح لكلّ مكوّن طائفي حقّ الفيتو مهما كان حجمه عملاً بالنص الدستوري الملزم بعدم شرعية أيّ سلطة انْ لم تراعِ مقتضيات العيش المشترك. ما يعني انّ أيّ حلّ او أيّ إعادة تشكيل السلطة يستوجب رضا الجميع واستبعاد الفيتو من أيّ مكوّن طائفي لبناني.
هذا هو النظام القائم الذي يجب ان نعمل به الآن كما هو مرحلياً ثم نطوّره إذا كانت هناك رغبة في الاستمرار والاستقرار، تطوير لا بدّ منه لأنّ النظام القائم هو نظام منتج للمشاكل والتعقيدات ومعطل لأيّ نهج إصلاحي حقيقي ومع استمراره سيستمرّ إنتاج الأزمات وسيستمرّ تشريع الأبواب أمام التدخل الخارجي، وتأكيد الدور المتقدّم للعوامل الخارجية تقدّماً على ما في الداخل. وهنا يطرح السؤال الثاني ما الحلّ المقبول الذي يمكن أن يشكل المخرج ـ التسوية ثم يكون جزءاً من مسار إصلاحي؟
في ظلّ النظام القائم على الفيدرالية الطائفية يجب ان نعترف بأنه لا حلّ ولا إعادة تشكيل سلطة تحكم لبنان وتنقذه مما هو فيه او تبعد او تحدّ من تأثير الأخطار المحدقة به. لا حلّ ولا مخرج من هذا المأزق في ظلّ هذا النظام الفدرالي الطائفي إلا عبر تفاهم وحوار وطني يفضي الى تسوية ترضي الجميع إذا أمكن أو يقبل بها معظم الأطراف خاصة المكوّنات الطائفية الأساسية لأنّ رفض أيّ طائفة أو مذهب من هؤلاء للتسوية يؤدّي الى تعطيلها.
وهنا نذكر بأنّ منطق او مفهوم التسوية ليس جديداً او مبتدعاً في لبنان بل هو أمر مألوف فيه منذ ان زعم انّ لبنان نال استقلاله وما قاعدة “التفهّم والتفاهم” التي كان يردّدها أحد أركان الطبقة السياسية اللبنانية منذ الاستقلال بأمر بعيد، وفي عودة الى الماضي نجد أنه في العام 1943 كانت التسوية قائمة على “النفيين” (لا ممرّ ولا مقرّ) أيّ انّ لبنان لن يكون مقراً للشرق ولن يكون ممراً للغرب، وفي العام 1958 كانت التسوية بـ 6 و6 مكرر، وفي العام 1989 كانت تسوية الطائف وإعادة توزيع صلاحيات الحكم، وفي العام 2008 كانت تسوية الدوحة، والآن لا أتصوّر ان يكون هناك خروج من المأزق الحالي إلا عبر تسوية جديدة تراعي هواجس الجميع وتضمن القدر الأساسي من حقوق المكونات الأساسية وتشمل بشكل أساسي الموقف من بناء دولة المواطن القوية القادرة والعادلة ويوكل أمر إقامتها الى سلطة تنفيذية تكون “سلطة مهمة” ويتفق على أشخاصها الأساسيين مع مهمّتهم في سلة واحدة، ويكون الانتخاب او التكليف او التعيين تكريساً لاتفاق سابق، وهنا قد يكون ملحاً ان يطرح اتفاق الطائف على البحث الجدي الإيجابي إما للمراجعة الشاملة وتصويب ما شابَهُ أو ما تبيّن فيه من ثغرات، او للاتفاق على آلية تنفيذ كامل بنوده بدون استثناء وفقاً للروح التي حكمت اعتماد نصوصه وأن يوضع لذلك جدول زمني لا يتعدّى الـ 6 سنوات هي مدة ولاية الرئيس الجديد للجمهورية.
إنّ التسوية التي نقول بها يجب ان تنطلق من مؤسسات النظام ذاته حتى لا تشكل انقلاباً يخيف البعض، وهنا قد يكون العمل الفوري بمجلس الشيوخ المنصوص عليه في الدستور حلاً مناسباً عبر تعيينه وبشكل استثنائي من قبل مجلس النواب القائم وتكليفه بعملية الحوار الوطني لإنتاج تسوية السلة الواحدة، تسوية تكون على مرحلتين… المرحلة الفورية التي تشكل درءاً للمخاطر الداهمة ومنعاً لانحلال الدولة ورفعاً للأعباء التي تثقل كاهل المواطن أيّ تسوية مرحلية لمنع التحلل او الانفجار، وتلي تلك المرحلة النهائية وهي مرحلة الحلّ الدائم الذي يخرج لبنان من الطائفية والمحاصصة ويحدّ من تأثير الخارج فيه ويقيم دولة العدالة والقدرة، أما المكابرة والتحدي فإنها لن تزيد الوضع إلا سوءاً ولن تقدّم لمن يتمسّك بها إلا الخسارة، في حين انّ الدعوة الى التوافق والتفاهم والتسوية كما يدعو الثنائي الوطني والتيار الوطني الحر وحلفاؤهما هي دعوة تستحق الاستجابة لها لأنّ في التوافق وحده يتشكل المخرج.
*أستاذ جامعي – خبير استراتيجي