قاطرة المونديال وعربة السياسة…
} سعادة مصطفى أرشيد*
تذهب مصادر سياسية وازنة للقول إنّ السر في حالة الهدوء السياسي النسبي الذي يمرّ به المشرق في الفترة الأخيرة يعود إلى نشاط دبلوماسي محموم واتصالات على أعلى المستويات كان أمير قطر قد أجراها مع جميع الأطراف الرسمية والتنظيمية في الشرق الأوسط باذلاً الرجاء والمال والإغراء في سبيل إقناعهم بضبط الإيقاع على مستويات هادئة، وذلك أثناء مباريات كرة القدم التي تجرى في مونديال قطر والتي بلغت ـ أو تجاوزت أكلافها ما يقارب ربع تريليون دولار. فالأمير القطري يدرك خطورة أيّ حادث أو اشتباك دامٍ وأنه سوف يعود بالضرر على المونديال ويُفسد أجواءه الاحتفالية الباذخة.
استأثر المونديال بالاهتمام العالمي والإقليمي بما يفوق أيّ مونديال سابق له، ومثّل أكثر حملة علاقات عامة تكلفة في التاريخ، وأصبح النشاط الكروي هو محور الاهتمام والمتابعة ونافس بذلك وتفوّق على مجريات الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها على أوروبا في جوانب عديدة أهمّها ما أحدثته الأزمة من برد وكساد ومن تمايز وهوة بين الحكومات الأوروبية وشعوبها، ومن اختلال سيكون له أثره البعيد على علاقة القارة العجوز مع الولايات المتحدة وحلفها الأنجلوساكسوني الذي يضمّ إليها كلّا من إنجلترا وكندا وأستراليا.
لكن الحرارة عادت لتسري من جديد إنما بمقدار مسيطَر عليه وذلك ما يمكن ملاحظته في ثلاثة أحداث، الأول: العملية التي قامت بها الجماعات التكفيرية الكردية في شارع الاستقلال في اسطنبول وردّ الحكومة التركية بشنّ عملية عسكرية تستهدف التنظيمات الكردية في الشمال السوري، هذه العملية التي بدأت بقوة وبطريقة حازمة ما لبثت أن تباطأت، ولسبب سيتضح لاحقاً في المقال، والثاني: في نتائج الانتخابات التشريعية «الإسرائيلية» ونجاح اليمين الأكثر تطرفاً، ثم طبيعة حكومة نتنياهو المقبلة وأثرها على مجموعة من الملفات من طهران شرقاً إلى غزة في الجنوب الغربي وما بينهما، والثالث: هو مفتاح فهم تباطؤ العملية العسكرية التركية وتشكيل الحكومة في تل أبيب وقد جاء على شكل حدث عابر، وذلك عندما اختطف فتيان من مخيم جنين جثمان فتى درزي ظنوا خطأ انه جثمان لجندي «إسرائيلي»، وكان الهدف من عملية اختطاف الجثمان مبادلته بجثامين شهداء المخيم الذين تحتجزهم «إسرائيل»، هدّد «الإسرائيلي» باجتياح جنين والمخيم، عندئذ تدخل أمير قطر وأجرى اتصالاته بشكل سريع ولحوح من أجل إنهاء هذه المسألة وإعادة الجثمان إلى ذويه وذلك خوفاً من أن يؤدّي اجتياح المدينة والمخيم إلى مجزرة تطيح بالمونديال والربع تريليون دولار استثماراً في المونديال.
في حال كان ورد على ألسنة السياسيين العارفين صحيحاً (والعهدة عليهم) فإننا بانتظار شتاء ساخن في السياسة موعده يأتي بعد اختتام مباريات كرة القدم في مونديال قطر على الصعيدين الإقليمي والدولي، فأوروبا ستعود للانشغال ببردها وكسادها، وواشنطن المتعثرة تريد تحقيق بعض النقاط لصالحها مع اقتراب وصول بايدن الى مرحلة البطة العرجاء أيّ عندما تبدأ التحضيرات للانتخابات الرئاسية .
إقليمياً، الحكومة (الإسرائيلية) ستصعّد في الضفة الغربية كما مع غزة، ووزارة الأمن الداخلي التي أصبحت وزارة للأمن القومي بإدارة المتطرف بن غفير الذي يفكر بشعبويته الداخلية أكثر مما يلقي بالاً للرأي العام العالمي او لتوجهات واشنطن، وهو يعلن عن برامجه العدوانية تجاه القدس والمسجد الأقصى وتجاه الضفة الغربية استيطاناً وتهويداً وقمعاً واجتياحاً وضماً، بما لا يترك للسلطة الفلسطينية في رام الله ما يحفظ ماء وجهها ويدفع المقاومة للردّ بسلوك مضاد من عيار مواز (ضمن إمكانياتها) مما يضع احتمال اندلاع انتفاضة من نوع جديد، في الملف اللبناني تعلن الحكومة عدم التزامها باتفاق الغاز وترسيم الحدود البحرية وستمارس مع لبنان أساليب استفزازية قد تفوق ما تستطيع المقاومة اللبنانية احتماله، في الملف الإيراني تعلن الحكومة عداءها الصريح لإيران ورغبتها في التصعيد معها زاعمة انّ مستلزمات أمنها القومي تتطلب منع إيران من تطوير برامجها النووية والتكنولوجية والعسكرية، لكن قرار الحرب مع إيران لا يمكن اتخاذه دون ضوء أخضر من واشنطن ومشاركتها أولاً ثم موافقة الدولة العميقه في «إسرائيل» (الجيش والأمن)، لكن نتنياهو الماهر والماكر المتمرّس قد يعمل على توريطهما أو على الأقلّ دفع الأمور الى حافه الهاوية مع طهران.
على صعيد آخر، في الشمال السوري ستنطلق القوات التركية بعد انتهاء المونديال لتنفيذ خطتها في ضرب الجماعات الكردية. وهذه الجماعات قد أخذت ولا بدّ تستشعر ضعفها اثر قصف آبار البترول التي كانت تسرقها وتموّل نفسها من عائداتها، كما تستشعر الخذلان الأميركي لها باعتبارها مادة للاستعمال وواشنطن لن تقامر بعلاقاتها بأنقرة لصالحها، في حين تبدي أنقرة حزماً في عمليتها العسكرية والتي أسبابها لا تقتصر على التفجير الذي حصل في شارع الاستقلال وإنما لأسباب انتخابية وسياسية اذ يريد أردوغان من عمليته العسكرية شحذ الشعور القومي التركي، ولن يكون أمام هؤلاء الأكراد إلا أحد خيارين، الدخول في مواجهه مكلفة مع الجيش التركي او اللجوء الى أحضان دمشق الدافئة والتي ربما تسير علاقتها بأنقرة نحو الانفراج.
*سياسيّ فلسطينيّ مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة.