أخيرة

نافذة ضوء

مصيبتنا الكبرى أننا نسينا تاريخنا

‭}‬ يوسف المسمار*
إن مخطط سايكس بيكو الذي جزأ أمة بلاد الشام والرافدين كان للقضاء على الوجود الحضاري السوري، وإضاعة هوية الأمة بتسمية منطقة الرافدين وبلاد الشام باسم منطقة الشرق الأوسط بدلاً من اسمها الحقيقي سورية. وكل ذلك كان مقدمة ً لولادة الشرق الأوسط الجديد الذي يعني من دون لف ودوران وشبهات ولادة «إسرائيل» الكبرى اليهودية من حدود إران الى وادي النيل. أي ان الشرق الأوسط يعني احتضار الأمة السورية، وزرع البذرة اليهودية الصهيونية في تربة سورية الطبيعية.
والشرق الأوسط الجديد معناه الحقيقيّ ولادة «اسرائيل» الكبرى اليهودية على أنقاض سورية التي تشترك جميع قوى البغي والطغيان بمراسم دفنها. أما المناطق التي تبرّع بها الإنكليز والفرنسيون المستعمرون الإمبرياليون في الشمال والشرق والجنوب والغرب الى جيراننا، فإن الغاية منها هي تحويل العداء عن أعداء وجودنا الحقيقيين الذين هم اليهود الصهاينة وداعموهم المغتصبون أرضنا والممزقون شعبنا الى خلق عداوات اصطناعية وهمية افتراضية مع جيراننا الأتراك والإيرانيين ومع إخواننا العرب في مصر والحجاز حتى ننسى العدوان الحقيقي ونتلهى بعداوات اصطناعية افتراضية خلقها لنا وسوّقها وروّج لها أعداء ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، علماً أن جيراننا وإخواننا هم جيراننا وإخواننا منذ بداية التاريخ، وعلينا أن نستمر جيراناً وإخواناً الى نهاية التاريخ على الرغم من كل ما يمكن أن يحدث من سوء تفاهم بين الجيران والأخوة.
ألم يوصِ النبيّ محمد بالجار ويشدّد على حب الجار والإخلاص له والاهتمام به حتى وصل الظن بصحابة الرسول الذين سمعوه إلى التوهم بأن الجار يمكن أن يرث جاره؟
ألم تقم رسالة السيد المسيح على القاعدتين الأساسيتين: تمجيد الله ومحبة القريب؟
لقد استطاعوا أن يخدعوا قادة مصر ويدجّنوهم ويوقعوهم بأحابيلهم وجعلوهم يتنكّرون لكل روابط الأخوة وصلاتها بماضيها المجيد، لتخرج مصر من تاريخها وتصبح عدوة لنا وصديقة لـ»اسرائيل».
وبثوا الفتنة بين العراق وإيران وكادوا أن يقضوا على إيران والعراق.
وأودّ أن أذكر حادثة للتاريخ جرت لي يوم كنت أعمل في العراق في شركة مندس جونيور العالمية في الدائرة القانونية، وكنت أراقب يومها ما يجري عن كثب ما يحدث في إيران والعراق، خصوصاً بعد انتخاب بني صدر رئيساً لجمهورية إيران وخطابه الذي قال فيه: «إذا تحرّك الجيش الإيراني لن أستطيع إيقافه إلا في بغداد». وبعد أن وصلتني معلومة عن اجتماع على الحدود العراقية السعودية بين الرئيس الأميركي والملك السعودي فهد، والرئيس العراقي صدام حسين قبل أن يلبسوه العباءة العربية، وقبل أن تبدأ الحرب بين البلدين بشهر ونصف على وجه التقريب، وبعد اكتمال تحليلي لما كان يجري كتبت إلى الرئيس صدام حسين رسالة قلت فيها ونشرت في كتاب صدر لي في البرازيل:
«سيادة الرئيس صدام حسين المحترم
…أنتم تحملون راية العروبة في العراق، وإيران تحمل راية الإسلام في إيران. لديكم جواسيس ولدى ايران جواسيس أكثر على رأسهم بني صدر، وذلك لأن ثورة إيران لم تستقرّ يومها بعد. والولايات المتحدة الأميركانية والصهيونية والدول الاستعمارية الأوروبية وغالبية حكومات البلاد العربية والإسلامية لا يريدون العروبة ولا يريدون الإسلام. وإني أرى شبح الحرب قادماً حتى أنني أتوقع انفجار الحرب بينكم وبين إيران قبل وصول رسالتي اليكم. إن الدول الاستعمارية الغربية والصهيونية يريدون القضاء على العراق وايران. وبعض الدول العربية التي هي مطايا للأجنبي مكلفة بخداعكم. أمنيتي أن تعملوا على تجنّب حصول هذه الحرب. ومن المفيد الاتصال بمراجع الثورة في إيران وخصوصا زعيم الثورة العلامة الخميني، كما أتمنى أن تكون توقعاتي خاطئة…».
هذا بعض مما ورد في رسالتي الى الرئيس صدام حسين في ذلك الزمن وقد تسلّم الرسالة وتلقيت شكراً من الرئيس صدام حمله الأستاذ كهلان العبيدي المسؤول الذي تسلّم مني الرسالة وكان برفقة شخصين قال لهما عني وأمامي في مكتبي في مقر شركة مندس جونيور العالمية الرئيسي في منطقة البغدادي في العراق: «هذا هو صديقي الذي توقع حدوث الحرب قبل حدوثها وسلمني رسالته الى السيد الرئيس». لقد وقعت الحرب فعلاً كما توقّع وحدث ما حدث.
وتلك القوى نفسها كانت تخطّط وما زالت تسعى بكل طاقاتها لإيقاع فتنة وحرب بين الشام وتركيا كما حدث بين إيران والعراق. وكل ذلك لإلهائنا بحروب جانبية ونسيان أو غض النظر عن العدو الحقيقي الذي هو الكيان اليهودي الاقتلاعي الاستيطاني الذي اغتصب الأرض، واقتلع أبناء شعبنا من بيوتهم، وهجّرهم الى شتى نواحي العالم، وارتكب ولا يزال يرتكب من الفظائع ما لا تتسع كتب الأجيال على وصفها وتدوينها.
إن سورية القومية الاجتماعية تعتز بجيرانها وإخوانها ولا يمكن أن تتخلى عنهم. ومهما ظلموها وأساؤوا اليها، فهي أكبر وأعدل من أن تظلم جيرانها وإخوانها وتسيء لهم، حتى أنها لا ترضى ان تظلم أعداءها أيضاً.
فما الذي جلب على شعبنا كل هذه الويلات؟ هل هذه الويلات التي تجتاح أمتنا اليوم نابعة من ذاتنا العامة؟ أم هي دخيلة علينا وآتية من جاهليات القرون البائدة؟ هل أبناؤنا جاهلون جاهليون أم هم واعون مستنيرون؟ وهل مجتمعنا مجتمع حضاريّ متقدّم أم هو مجتمع بدائي منحطّ؟ وهل باستطاعتنا أن نخرج مما نحن فيه من المحن أم هو قدرنا أن نـُسحق تحت أقدام شذاذ الآفاق وقراصنة المجرمين واللصوص؟
أسئلة لا يجيب عليها الا من وُلد بالنور، وتغذّى بالنور، وعاش بالنور، ونما بالنور، وكَبُر بالنور، وتطوّر وارتقى بالنور، وأطل على أسرار الوجود وألغاز الخلق وخفايا المصير ببصيرة من نور لا تنفصل عن خالق النور وإرادة خالق النور الذي خلق فسوّى، وقدّر فهدى فكان الوعيُ المستنير سلطان الإنسان الذي وصل الأرض بالسماء، والسماء بما فوق السماء فصار قاب قوسين أو أدنى من معرفة حقيقة الوجود، وحقائق البداية والنهاية.
وعند هذه النقطة من التجلي والاستشراف تتبخر كل علامات الاستغراب وتتلاشى الأسئلة حين نتوصل الى حقيقة أن النور لن يصبح ظلاماً، وأن الحضارة لن تصير همجية، وأن اليقظة لن تكون نوماً، وأن الوجود لن يتحوّل الى عدم، وأن حركة الإبداع والتسامي يستحيل أن تتقهقر أمام الجمود والابتذال والانحطاط.
عندها ندرك بما لا يدع مجالاً لأي شك وارتياب أن سورية التي افتتحت أبجدية البشرية المتحضّرة وعياً ومعرفة وحكمة وفضيلة وعلوماً وفنوناً، وقوانين ورسالات، وابتكارات وإبداعات، وإنجازات وبطولات لن يكون مصيرها ومصير أبنائها إلا مصير التفوق والتألق والانتصار في معركة الوجود والبقاء حتى ولو تكالبت عليها جراثيم الأرض ومكروبات الفضاء.
تقول المسيحية السورية أن «الله مصدر النور» وتصدّق المحمدية السورية قول المسيحية فتجزم أن «الله نور السماوات والأرض».
وهذا القول يعني أن الكون بكل ما فيه وما يحيط به هو نور، لأن الله هو المحيط بكل شيءٍ ظاهرٍ لنا وغير ظاهر، منظور وغير منظور، مرئي وغير مرئي.
إذاً، أين تكمن العلة في بعض ناسنا هذه الأيام وقد وهبهم الله بصائر تُبصر، ومدارك تُدرك، وعقولاً تـُميّز؟ أليس لإهمالهم البصائر؟ وتعطيلهم للمدارك؟ وحجرهم على العقول؟ أليس لفقدان وعيهم، وشحة بصائرهم، وهشاشة أرواحهم وبشاعة نفوسهم؟
إذاً، كيف يجرؤون على القول إنهم مسلمون لله رب العالمين ولا يستعينون بنوره على رؤية جمال الخلق والخليقة ويستمرون في غيهم وضلالهم يعمهون ويملأون البلاد فساداً وفتناً وشروراً؟ ويساعدون الأعداء المجرمين على تخريب بلادنا وتدمير مرافقها وقتل أبنائها ودفعها الى هاوية السقوط تحت أقدام المعتدين المجرمين المستعمرين؟
لقد قال أنطون سعاده في محاضرة له في مدينة سانتياغو في الأرجنتين في أيار 1940:
«إن أعظم ما أُصبنا به هو أننا نسينا تاريخنا، وصرنا حائرين كاليتيم الذي يجهل أباه وأمه، ويهتمّ دائماً بكشف هذا السر فيقول في سره بلهفة: مَن هو أبي ومن هي أمي؟ والحقيقة أن اليتيم الذي يجهل أباه وأمه لا يمكن أن تكون شخصيته كاملة لأنه يشعر دائما أنه ينقصه شيء. وأن هذا الشيء لا يمكن أن يستعيض عنه بشيءٍ آخر… فيجب على السوري أن يعرف من هو أبوه ومن هي أمه، أي أن يراجع تاريخه ويدرسه بتدقيق وإمعان. ومتى لاحق هذه القضية يُدرك أنه ليس يتيماً، بل هو ابن تاريخ مجيد، وأن بلاده أعطت انتاجاً في أسواق الرقيّ الإنساني مثل أعظم الأمم بل أكثر منها».
الى ان يقول: «فوجود السوري في العالم ليس من الأشياء التي يمكن الاستغناء عنها. بل هو كائن لازم وضروري للحضارة والثقافة وترقية النوع البشري».

*باحث وشاعر قومي مقيم في البرازيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى