إنقاذ لبنان بالقضاء على الفساد وتعزيز الإنتاج… والتوجه شرقاً
} أحمد بهجة*
لا يكاد يمضي يوم إلا وتكون سيرة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة منتشرة على الألسن وفي وسائل الإعلام المختلفة، إما لنقل المستجدات عن ملاحقته من قبل الأجهزة القضائية في دول أوروبية عديدة، أو بسبب ملاحقة قضائية محلية له أو لبعض المحيطين به، خاصة مع دخول العنصر الفني النسائي على خط الملاحقات في الأيام القليلة الماضية.
ورغم وضوح الصورة على صعيد المخالفات الجسيمة المرتكَبة، يلاحظ المراقبون أنّ الحديث عن التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان قد خفت كثيراً إلى درجة يبدو معها أنه موضوع أصبح من الماضي، مع العلم أنّ الجميع يعرفون ويجزمون بأنّ هناك ارتكابات كثيرة وكبيرة حصلت في المصرف المركزي على مدى ثلاثين سنة، وكانت نتيجتها ضياع مليارات الدولارات في دهاليز الهدر والسرقات والصفقات، بالتكافل والتضامن والشراكة مع عدد كبير من أركان منظومة الفساد السلطوية المتجذرة في مفاصل الدولة، وفيها مَن فيها من سياسيّين ومصرفيّين ورجال دين وإعلاميّين وغيرهم.
وبما أننا اليوم في مرحلة مائعة في هذا الوقت السياسي الضائع من عمر لبنان واللبنانيين، فإنّ التأسيس للمرحلة المقبلة لا بدّ أن يستند إلى معادلات واضحة، إذ لا يمكن بناء السلطة مجدّداً على القواعد السابقة نفسها، بل المطلوب بإصرار وإلحاح أن يتمّ إعادة الانتظام العام إلى مؤسسات الدولة بدءاً من انتخاب رئيس للجمهورية ثم تشكيل حكومة جديدة، على أن يكون جميع المعنيين ملتزمين بشكل كامل بمتابعة موضوع التدقيق الجنائي وإيصاله إلى خواتيمه، حيث تتمّ محاكمة مَن يجب محاكمته وإعادة المليارات المهدورة والمهرّبة إلى الخزينة العامة، وهي مبالغ طائلة من شأنها إعطاء الحكومة الجديدة فرصة مهمة لإطلاق برامج الإصلاح الاقتصادي والإنمائي في جميع المجالات.
يُضاف إلى ذلك ضرورة أن يكون أهل السلطة في المرحلة المقبلة مصمّمين على اتخاذ القرارات الإنقاذية الجريئة وأوّلها اعتماد خيار التوجه شرقاً، وأن يكونوا جديين في ملاقاة العروض المهمة جداً التي جرى تقديمها للبنان في المرحلة الماضية من دول صديقة كـ روسيا والصين وإيران في مجالات الكهرباء والمحروقات والنقل العام والأنفاق وسكك الحديد ومصفاة النفط وغير ذلك من مشاريع حيوية وإنمائية مفيدة جداً للبنان في الأيام العادية، فـ كيف ونحن اليوم بأمسّ الحاجة لأبسط مساعدة في ظلّ الأزمات المتراكمة في القطاعات المذكورة وغيرها.
وحين تمّ طرح التوجه شرقاً لم يكن الأمر مزحة، أو مجرد طرح عشوائي، بل كان نتيجة معطيات جدية ملموسة، خاصة في ضوء العروض المغرية الكثيرة التي تلقاها لبنان في المجالات الحيوية الواردة أعلاه.
وإذا وضعنا جانباً الهبات القيّمة جداً التي عرضت روسيا وإيران والصين تقديمها للبنان، والتي لا يزال بعض المسؤولين يتردّدون في قبولها خوفاً على مصالحهم الخاصة مع الولايات المتحدة وغيرها… إذا وضعنا هذه الهبات جانباً فإنّ حجم المشاريع التي تمّ عرضها على لبنان يصل إلى نحو أربعين مليار دولار تأتي بها الدول المعنية من صناديقها وخزائنها ولا يتكلف لبنان ولا حتى دولاراً واحداً، لأنّ تنفيذ المشاريع سيكون على طريقة bot، أيّ أنّ لبنان سيستفيد من إنفاق نحو أربعين مليار دولار على أراضيه لتنفيذ هذه المشاريع الإنمائية خلال ثلاث سنوات كحدّ أقصى، ثمّ سيستفيد من الحركة الاقتصادية التي ستخلقها هذه المشاريع في دورة الاقتصاد الوطني، وهي حركة لا يُستهان بها أبداً في سياق النهوض باقتصادنا المدمّر حالياً…
كما أنّ مرحلة البناء الموعودة بعد اكتمال عقد مؤسسات الدولة لا بدّ أن ترتكز على قاعدة محاسبية حازمة، إذ لا يجوز مطلقاً التغاضي عن كلّ ما حصل واعتماد مقولة “عفا الله عما مضى”، بل يجب أن تكون السلطة الجديدة صارمة في دعم كلّ تحقيق في قضايا الفساد والهدر والسرقة في المراحل السابقة، وفي المقدمة دعم التدقيق الجنائي وإعادته إلى السكة الصحيحة ومنع أيّ كان من عرقلته أو المماطلة من جديد في تسليم شركة التدقيق “ألفاريز أند مارسال” كلّ المعلومات والوثائق اللازمة لاستكمال عملها والوصول إلى النتائج النهائية المطلوبة.
ولا شكّ أنّ هذه الأمور إذا تمكنا من إنجازها أو على الأقلّ وضعها على سكة الإنجاز، فإننا نبدأ باستعادة الثقة بالاقتصاد اللبناني، ونحول دون أن تستمرّ التداعيات السلبية الكبيرة نتيجة فقدان الثقة باقتصادنا في الداخل والخارج، خاصة مع سيل الفضائح والسياسات الاقتصادية والمالية العشوائية والاعتباطية، وبنوع أخص بعد تعثر مصرف لبنان والمصارف الخاصة، ما أدّى بشكل أو بآخر إلى ضياع أموال الناس في المصارف، سواء كان المودعون لبنانيين أو عرباً أو أجانب…
ولكن ما يجدر التوقف عنده هو أنّ الجزء الأكبر من هذا الخارج الذي نقول إنه فقد الثقة بالاقتصاد اللبناني هو نفسه مَن يتولى حماية الفاسدين في لبنان ويمنع المسّ بهم، ويحول دون محاسبتهم أو مساءلتهم ويضغط على السياسيين من أصحاب القرار لكي يظلّ أولئك الفاسدون في مناصبهم! ومن هنا علينا كلبنانيين أن لا نتكل كثيراً على إمكانية أن يقوم قضاء خارجي بمحاسبة الفاسدين في بلدنا، بل علينا نحن ان نقوّي قضاءنا ونعطيه استقلاليته إلى الحدّ الأقصى، كما علينا نحن كمواطنين واجبات ومسؤوليات كبيرة في محاسبة كلّ من يمنع القضاء من أن يقوم بواجبه.
وبذلك يمكننا أن نعيد الثقة باقتصادنا في الداخل والخارج، خاصة أنّ لدى لبنان فرصاً اقتصادية واعدة تحدثنا عنها آنفاً ومن شأنها أن تنقذنا من هذه الهوّة العميقة التي انحدرنا إليها…
*خبير اقتصادي ومالي