أولى

حادث العاقبية: حتى لا يتكرّر الخطأ وتتفاقم الخسائر…

‭}‬ العميد د. أمين محمد حطيط*
في غمرة متابعة عارمة لفعاليات مونديال كرة قدم، وبشكل مفاجئ وقع حادث الأسبوع الماضي في بلدة العاقبية الجنوبية تسبّب به وجود سيارة عسكرية للقوات الدولية العاملة في لبنان بعيداً عن منطقة عملياتها وخارج خط تحرّكها المألوف بين بقعة العمليات ومطار بيروت الدولي، حادث لا تزال الجهات المختصة في الدولة اللبنانية والأمم المتحدة والقوات الإيرلندية كلّ في دائرة صلاحياتها ومدى استطاعتها، تسعى لمعرفة ما حصل لتحديد المسؤولية في الحادث الذي أودى بحياة عسكري ايرلندي وإصابة ثلاثة من زملائه، كما وإصابة مدني لبناني كان في المحلة فدهسته سيارة الأمم المتحدة.
أما ما تمّ تداوله في وصف الحادث أو ما بات مسلماً به خارج دائرة النقاش فهو أنّ قافلة لليونيفيل مؤلفة من سيارتي جيب عسكرتين مصفحتين تقلان ٨ عسكريين كانت تتحرك من منطقة عمليات القوات الدولية في الجنوب قاصدة بيروت، وخرجت إحدى السيارتين عن خط التحرك المألوف لها وهو الأوتوستراد الساحلي صور ـ الزهراني، ودخلت في منطقة لبنانية مدنية مأهولة بعيدة عن بقعة العمليات، منطقة لم يألف أهلها مشاهدة او وجود سيارات اليونيفيل في بلدتهم، ما أثار حفيظة جمع من المدنيين الذين كانوا يتحشدون في مقهى في المحلة لمشاهدة إحدى مباريات المونديال، فخاف ركاب الجيب ودفعهم خوفهم الى إطلاق النار إرهاباً في الهواء وتحرّك سائق سيارة الجيب مذعوراً خاصة بعد أن سمع أزيز الرصاص ما تسبّب بارتطام السيارة بعمود على جانب الطريق نجمت عنه إصابة جميع من في السيارة ووفاة السائق.
إنه دون شك حادث مؤسف ما كان ينبغي أن يحصل، وكان يمكن منع حصوله لو كان التنسيق والتنظيم لحركة قوات اليونيفيل قائماً بشكل أفضل، لأنه في غياب هذا التنظيم والتنسيق ومع سعي بعض الجهات الدولية لتعديل صلاحيات القوات الدولية بما يجعلها تقترب من قوات ردع تعمل تحت الفصل السابع خلافاً لطبيعة مهمتها الأساسية المحدّدة بأنها قوات حفظ سلام تعمل تحت الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة الذي يكون العمل بموجبه مشروطاً بقبول الدولة ذات العلاقة وتحت سقف سيادتها واستقلالها.
وبالمناسبة أذكر بأنه في العام ٢٠٠٠ وعندما فرضت المقاومة في لبنان على العدو «الإسرائيلي» الانسحاب من جنوب لبنان، وكنت على رأس لجنة عسكرية كلفت بمهمة التحقق من اكتمال الانسحاب الى الحدود الدولية كما ينص القرار ٤٢٥، تبيّن لنا أنّ قوات اليونيفيل الموجودة في الجنوب منذ العام ١٩٧٨ تعتمد فلسطين المحتلة والموانئ الجوية والبحرية والأسواق «الإسرائيلية» مرتكزاً لعملياتها اللوجستية ولانتقالها من الجنوب وإليه متذرّعة بأنّ الوضع الأمني في لبنان لا يمكنها من اعتماد المرافق اللبنانية لوجستياً. هنا وبتوجيه من رئيس الجمهورية العماد إميل لحود قامت مديرية المخابرات في الجيش اللبناني والأمن العام بمعالجة الأمر وتمّ التوصل الى اتفاق لبناني ـ أممي يتضمّن تحويل كافة الشؤون اللوجستية الممكن توفير مستلزماتها إلى لبنان من «إسرائيل»، وفقاً لآلية ونظام يتولى الجيش اللبناني وبشكل خاص مديرية المخابرات والشرطة العسكرية مسألة تنظيمه وتأمين مقتضياته الأمنية.
وعملاً بهذا الاتفاق او التفاهم اعتُمد مطار بيروت الدولي لحركة انتقال القوات الدولية من لبنان وإليه، كما وُضعت آلية لانتقال القوى من مطار بيروت الدولي الى الجنوب بحيث تتولى الشرطة العسكرية وضع قوى منها لمرافقة قوافل القوات الدولية من المطار الى الجنوب وبالعكس، انتقال كان يتمّ وفقاً لأمر تحرك يعمّم على كافة التشكيلات العسكرية اللبنانية المنتشرة على خط التحرك، حيث تكون تلك القوى مسؤولة عن أمن القوافل في نطاق مناطق عمليات كلّ لواء أو فوج لبناني منتشر في المنطقة.
من يراجع اتفاق العام ٢٠٠٠ الذي عُمل به لسنين طويلة، ويفحص ما جرى لقافلة الأمم المتحدة التي خسرت أحد جنودها يجد أنّ الاتفاق تمّ تجاوزه وانّ الجيش اللبناني لم يكن على علم بما يجري وأنّ المهمة نفذت بتفرّد من القوات الدولية، وهنا يكمن الخطأ الأساس الذي قاد الى هذه الخسائر المؤسفة، ونحن عندما نقول بالخطأ لا نعطي مبرّراً او ذريعة للتسبّب بموت جندي دولي، إذ يبقى موته أمراً مؤلماً ومؤسفاً يستوجب أقصى درجات التعاطف والمؤاساة، ولكننا لا نستطيع أن نهمل مسألة تتصل بكيفية تشكل البيئة التي قادت الى هذه النتيجة.
وهنا وبما انّ المهام العسكرية الصحيحة والسليمة يجب أن تكون خاضعة لمنظومة من التدابير التي تضبطها فإننا وبعيداً عن مواقف جهات لبنانية او أجنبية تنطحت للحادث وأرادت أن تستغله او تستثمر فيه لبلوغ مآرب أخرى بعيدة عنه وعن المصلحة الوطنية ومن أجل استهداف المقاومة في لبنان أو التعرّض للبيئة الجنوبية الحاضنة للمقاومة، بعيداً عن كلّ ذلك فإننا نرى انّ الوضع بحاجة الى معالجة حكيمة تحفظ مصالح لبنان وشعبه ومواطنيه خاصة في الجنوب حيث قدّمت الدماء الزكية والجهد الصادق في سبيل تحريره من الاحتلال «الإسرائيلي»، تضحيات قدّمت من أجل التحرير وليس من أجل استبدال احتلال باحتلال، ولذلك نرى أنّ المعالجة الصحيحة لما حصل يجب أن تعالج ما وقع وتمنع وقوع ما يماثله مجدّداً وعليه يجب:
1 ـ إجراء تحقيق شفاف وجدّي ونزيه يجيب على أسئلة أساسية لا بدّ من معرفة إجابتها لتحديد المسؤولية في ما حصل، أسئلة تُختصر بما يلي: ما هي طبيعة المهمة التي كانت دورية اليونيفيل تقوم بها؟ لماذا خرجت الدورية عن خط سيرها العادي صور ـ الزهراني؟ هل هناك مبرّر لتحرك يونيفيل ليلاً خارج منطقة عملياتها منفردة؟ وهل نسقت المهمة مع الجيش اللبناني؟ كيف وقعت الإصابات في صفوف الدورية؟
2 ـ التزام قوات اليونيفيل بالروح والنص الأساسي للقرار ١٧٠١، باعتبارها قوات دولية وُضعت في خدمة الأمن والسلام الدوليين في الجنوب تحفظ وتراعي كلّ مستلزمات ومقتضيات السيادة الوطنية اللبنانية بحيث لا تقوم بأيّ فعل ميداني او تمارس وجهاً من وجوه القوة بغير رضا وموافقة الحكومة اللبنانية وتقبل الأهالي، فقوات اليونيفيل ليست قوات ردع دولية تعمل تحت الفصل السابع رغماً عن إرادة لبنان وحكومته، وعليها أن تعلم بأنّ مغادرتها لمنطقة الرضى والقبول بها وبعملياتها يحوّلها الى قوات احتلال أجنبي ويسقط عنها الشرعية الدولية.
3 ـ العودة الى إحياء بروتوكول العام ٢٠٠٠ للتعاون والتنسيق بين الجيش اللبناني واليونيفيل حيث تكون كافة انتقالات وتحركات قوات اليونيفيل خارج بقعة عملياتها، أيّ شمال نهر الليطاني، مصحوبة بمواكبة من الجيش اللبناني مخابرات او شرطة عسكرية او قوات خاصة تختارها قيادة الجيش، وتكون حركتها محدّدة بشبكة طرقات محدّدة مسبقاً أما عملياتها داخل بقعة صلاحياتها فيجب أن تكون منسقة ومخططة مع الجيش اللبناني صاحب الصلاحية الحصرية ببسط سيادة الدولة على إقليمها،
4 ـ وقف عمليات الاستثمار الرخيص لما حصل ورفض مواقف التملق والمسارعة الى الشجب والإدانة تلميحاً او تصريحاً لاتهام أطراف لا علاقة لها بالحادث من قريب او بعيد والالتفات الى حقائق ينبغي عدم السهو عنها أهمّها انّ تاريخ العلاقة الممتازة بين الكتيبة الإيرلندية وسكان الجنوب الذين شكلوا لها بيئة صديقة حاضنة بودّ خلافاً لما زعمه رئيس وزراء إيرلندا بأنها بيئة معادية. إذ لو كانت كذلك لما استمرت الكتيبة الإيرلندية في الجنوب أكثر من ٤٣ عاماً على التوالي.
5 ـ وأخيراً يجب أن لا تحجب الحادثة مع الألم الذي رافقها، ما تقوم به «إسرائيل» من عمليات انتهاك وضمّ لأرض لبنانية متحفظ عليها في العديسة منذ العام ٢٠٠٠ ويجب أن نسمع صوتاً من الذين شجبوا وأدانوا حادث العاقبية او حجّوا الى الناقورة دعماً لليونيفيل، يجب أن يرفقوا إدانتهم تلك بإدانة «إسرائيل» والحجّ الى العديسة أيضاً عندها نصدّقهم في وطنيتهم وحرصهم على مصالح لبنان وحقوقه.
*أستاذ جامعي ـ خبير استراتيجي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى