أخيرة

دردشة صباحية

مدينتي حملت حقائبها ورحلت…
يكتبها الياس عشّي

 

ما عادت رائحةُ الموجِ، ولا لونُها الزبديُّ الأبيضُ، ولا النوارسُ، ولا زرقة السماء، ولا الرمالُ المعجونةُ بصوت الرعد، وحبّاتِ المطر، ونكهةِ ثمرةِ «الكما» الخارجةِ لتوّها إلى عالم الضوء،
ما عادت هذه الأشياءُ البهيجة تقنعني أنّ المدن العربية مسكونةٌ فيّ، وأنها تحمل أوجاع الناس، وأحلامهم، وأنها ستبقى حارسةً لكلّ الأفكار الجميلة، والطيبة، والبسيطة، والشجاعة، التي لا تقاربها مدن الدخان، والنفط، والمرافئ، والبغاء.
مدينتي حملت حقائبها، ورحلت تاركةً، وراء ظهرها، مِساحات طالما انتصبت فيها القامات مطالبة، بأصواتها المبحوحة، بالحريّة.
مدينتي، يا سادتي، نسيت ذاكرتها، ثَمّ تخلّت عن طموحاتها، ثَمّ صارت واحدة من «مدن الملح» التي تحدّث عنها نوّاف عبد الرحمن في خماسيّته المميّزة.
وجاء زمن تركت مدينتي، وكان دليلي مخلوقاً أسطوريّاً اسمه « الغول «، يمشي أمامي، ويتيّهني تماماً كما تيّه، من قبلُ، كلَّ العرب في ترحلهم بين واحة وأخرى.
عرّفني «الغول» على مدن لم أعرفْها من قبلُ، وألزمني أن أمكثَ فيها سنوات طويلة، غير عابئ بتوسّلاتي كي يعيدني إلى مدينتي الأولى… إلى مدرستي الأولى… إلى أترابي… إلى رائحة البحر والنوارس وأقواس القُزح… إلى الزواريب التي شهدت قبلتي الأولى، وثورتي الأولى، وكتاباتي الأولى.
عدت إلى مدينتي وأنا أحمل على ظهري سبعين سنة مليئة بالنجاح والإخفاق، بالفرح والحزن، وبسؤال واحد:
هل كلّ هذه السنوات عشتها في المكان الخطأ؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى