النكد والحرد السياسيان: فساد لبناني مقونن
} خضر رسلان
إنّ المعنى الأساسي لكلمة سياسة مشتقّ من كلمة ساس. ويُقال سَاسَ القوم أيّ دبّر شؤونهم أو اعتنى بهم من جميع النواحي، مع العمل المتواصل والتخطيط الدائم لمستقبل أفضل. والسياسة كما جرى تعريفها هي التصدي لشؤون الرعية. وفي هذا الإطار أشار أرسطو وأفلاطون إلى مفهوم آخر في السياسة، قوامه مقدرة الناس على حكم أنفسهم إذا ما طبّقوا المبادئ العقلانية التي تقود إلى تحسين الممارسة السياسية.
ففنّ الحكم وإدارة شؤون الناس هو أصل علم السياسة، وهو جزء لا يتجّزأ من واقع الحياة، ومن البديهيّات الأساسية في المجتمعات. وليس هناك من مستقبل للدول من دون حياة سياسية، إنما العبرة في شكل الأنظمة والساسة الذين يتصدّون لإدارة المجتمع؛ هل يطبّقون المبادئ العقلانية التي ترمي إلى رعاية الناس وحماية مصالحهم، أم تكون سلطة استنسابية خارج نطاق العقل تتحكم فيها المصالح الفردية والفئوية ويبرز فيها كما حال الكيان اللبناني مفردات يعجز القاموس عن استكشاف معانيها وأبعادها ومراميها؟ فبعدما اعتاد اللبنانيون مفردات ومفاهيم ذات صنع محلي، كحال السيادة والحياد، إلّا من الإملاءات الأميركية ورعاية السفارات الأجنبية إلى نظرية 6 و6 مكرّر الى تشكيل هيئة لمكافحة الفساد والفاسدين، بدأوا يتعايشون مع مفهومين من إنتاج لبناني حصري؛ وهما النكد والحرد السياسيان. وهما رغم تداعياتهما الخطيرة على المستوى الوطني يجري التداول بهما لدى السياسيين ووسائل الإعلام بشكل انسيابي دون أيّ اكتراث ومراعاة للانعكاسات السلبية التي تصيب اللبنانيين نتيجة لذلك.
1 ـ النكد السياسي في الدستور اللبناني
أحكام اتفاق الطائف (1989) أصبحت جزءاً من الدستور اللبناني (1990) ورغم وجود الكثير من الإصلاحات في طياته إلا أنّ الكيدية السياسية و «النكد السياسي» حالا دون تطبيق العديد منها وبالتالي، فإنّ التغاضي المستمرّ عن تطبيق الخطوات الإصلاحية هو بمثابة الإمعان في تكريس الواقع اللبناني المأزوم والذي تزيده أزمة بعض الصلاحيات التي أقرّت في اتفاق الطائف، التي تساهم في تفاقم الأزمات، فضلاً عن تأجيجها في الكثير من الأحيان للحساسيات الطائفية، ومنها على سبيل المثال قدرة أيّ وزير على تعطيل أو تأخير تنفيذ قرار صادر عن مجلس الوزراء في شأن خاص بوزارته دون أيّ اكتراث للتداعيات. فالقانون والصلاحيات أتاحت للوزير ممارسة الحرد والنكد والكيدية السياسية بكلّ أريحية، هذا فضلاً عن إقرار وثيقة الطائف للعنوان الأبرز في ممارسة النكد والحرد والكيدية السياسية المتمثلة في عملية تأليف الحكومة، التي لا تلزم رئيس الجمهورية توقيع مراسيم ولادتها، وتتيح أيضاً للرئيس المكلف التريّث دون إلزامه أيّ وقت محدّد لتقديمها. وبالتالي فإنه وفي ظلّ عدم وجود مؤسّسات رقابة على تطبيق العمل السياسي ولا يوجد تحديد واضح لهذه الصلاحيات فإنّ مسرح النكد والحرد السياسيين ستبقى أرضيته خصبة ومعبّدة.
2 ـ كيّ وعي اللبنانيين بين الحصار والنكد
استطاعت سياسة كيّ الوعي أن تطبق على أغلبية المكونات اللبنانية، وخير مثال لها الولايات المتحدة الأميركية التي دخلت (وسيطاً) بين لبنان والكيان «الإسرائيلي» في ترسيم الحدود البحرية، وزيارات مسؤوليها المكوكية إلى لبنان بحجة مساعدة شعبه. فإنه لا يختلف اثنان في أنّ لبنان يتعرّض لحصار اقتصادي من قبل الإدارة الأميركية، وهو الذي أوصل البلد إلى الانهيار، وأفقر الشعب اللبناني. فالڤيتو الأميركي واضح لمنع لبنان من التوجه إلى دول أخرى تدعمه وتستثمر فيه، سواء روسيا أو إيران أو الصين أو حتى بعض الدول الأوروبية، وسبق لشركة «سيمنز» الألمانية أن قدّمت عرضاً لتأمين حاجة لبنان خلال 6 أشهر بكلفة 800 مليون يورو، وجرى رفضه حال عروض إيران والصين وروسيا في هذا الإطار.
وضمن سياسة كيّ الوعي فقد أصبح الشعب اللبناني متطبعاً مع قرارات النكد والحرد والكيدية السياسية للمسؤولين اللبنانيين رغم فداحتها وانعكاسها على أوضاعهم الحياتية. فترى نكداً سياسياً يبقي بواخر الفيول مركونة في البحر، ويدفع أثمانها الشعب اللبناني مرتين: مرة عبر دفع إيجارها اليومي الباهظ، وأخرى عبر زيادة فواتير مولدات الكهرباء. ويمرّ الأمر بكلّ سلاسة وبساطة، شأنه شأن الكثير من الملفات التي لم تمرّر فقط لأسباب كيدية ونكدية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
ـ خطة الكهرباء وعدم إقرارها، ما يجعلها بحق أبرز عناوين الفساد المقونن التي تجمع بين الكيد والنكد السياسيين وبين حيتان كارتيلات المشتقات النفطية.
ـ الكيد والنكد السياسيان ثم الحرد من قبل قاضي التحقيق في قضية تفجير المرفأ بعد إصداره للاستنابات القضائية، وانتقائه شخصيات وإهمال أخرى بطريقة استنسابية.
ـ إفشال سياسة بناء السدود وجرّ المياه بطريقة كيدية ونكدية للمناطق اللبنانية رغم فوائدها الاقتصادية التي يستفيد منها كلّ الشعب اللبناني.
ويوجد الكثير من القضايا والمشاريع والتي يستفيد منها الشعب اللبناني وجرى إفشالها لأسباب كيدية أو نكدية تدخل في إطار التنافس الانتخابي والاستقطابي، وينتج منها إهدار الكثير من الأموال والمقدرات من دون أن يرفّ جفن من امتهن الفساد المقونن بعناوين شخصية بالدرجة الأولى ثم طائفية وحزبية.