رشيد القاضي… الجسر الخامس

معن بشور

في تاريخ لبنان الموثق، أنّ جسر القاضي الذي يصل ما بين الشحّار والغرب من جهة، وبين الشوف والجرد من جهة أخرى، قد بناه الأمير التنوخي عماد الدين حسن قبل أكثر من 600 عام ليسهّل التواصل والانتقال بين بعبدا وبعقلين، كما بين أهل الغرب وأهل الشوف، ثم أعيد بناؤه مرات ثلاث، مرة في عهد القاضي زين الدين محمد التنوخي، ثم في عهد المتصرف العثماني واصا باشا، ثم مؤخراً بعد أن عبرت عليه الدبابات «الإسرائيلية» عام 1982.

وحين تعرّفت إلى الشيخ رشيد القاضي في أواسط الثمانينات، وكان لبنان كله، وعاصمته بخاصة، غارقين في ظلام الاحتراب الأهلي وظلم الاقتتال الطائفي، اكتشفت في الرجل حكمة «الشيوخ»، وعقلانية «الراشدين» وإنصاف «القضاة»، وقلت مع إخواني إنه جسر القاضي الخامس، فإذا كانت الجسور الأولى هي من صخر وحجر فالجسر «الجديد» هو من لحم ودم، وإذا كانت مهمة الجسر الحجري الذي أعيد بناؤه أربع مرات هي التواصل بين مناطق في الجبل، فمهمة «الجسر» البشري الذي تعرّفنا إليه هي التواصل بين جميع اللبنانيين، وخصوصاً بين أبناء الجبل، وبينهم وبين أبناء العاصمة.

ومن فكرة بناء الجسور، التي طالما استهدفها الأعداء، لا سيّما الصهيوني، انطلقنا مع رشيد القاضي – رحمه الله في مسيرة استمرّت ثلاثين عاماً، فأسّسنا معاً نوادي ولقاءات ومنتديات وبرامج، كانت «دار الندوة» فيها المنطلق والمسار وكانت مسيرة السلم الأهلي عنوانها وشعارها، وكانت وحدة لبنان وعروبته الغاية والهدف.

أول ما شدّنا إلى هذا الرجل الصلب في مبادئه، والثابت في صدقه، الراقي في علاقاته، العريق في إرثه العائلي، هو أنه بقي قابضاً على جمرة الوحدة بين اللبنانيين في زمن الحرائق والعواصف والأعاصير، بل كنا نشعر، وهو يدافع عن وحدة الجبل ورسالة بيروت، أنه سليل الأمراء التنوخيين الذين أنيطت بهم المرابطة على الثغور اللبنانية والدفاع عنها، بيد أنّ الثغور التي التزم رشيد القاضي بالدفاع عنها لم تكن مدناً وحواضر فحسب، بل كانت قيماً ومُثُلاً عليا لم يغادرها يوماً رشيد القاضي، على رغم الكلفة العالية التي دفعها في مفاصل عدّة من حياته.

كرامة الجبل، ووحدة الوطن، وحرية الإنسان، كانت الثالوث الذي حكم حياة الراحل العزيز بكلّ فصولها الإعلامية والثقافية والوطنية وأقول الوطنية لا السياسية لأنّ رشيد القاضي لم يكن سياسياً بالمعنى المتعارف عليه، بل كان صاحب رسالة أولاً وأخيراً.

وعلى رغم أنّ وفاته جاءت في وقت الأعياد، فغاب يومذاك نعيه عن الصحف ووسائل الإعلام في عطلتها، لكن تقاطر الحشود والشخصيات التي نجح النعي في التسلّل إليها، على رغم العطل، إلى المشاركة في تشييعه أكّد مكانة الرجل بين عارفيه وقادريه، وأكّد أنّ ما يمكث في الأرض هو أهل الفضل وبناة الجسور حتى لو قست عليهم الأيام، وأساء فهمهم من تأخذه حيناً حماسة القتال بعيداً من حلاوة التواصل وفهم الآخر.

رحم الله أبا نجيب، الشيخ والرشيد والقاضي في آن…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى