أنشطة قومية

يوتوبيا المواطنة وتحدّياتها.. في نشوء حقوق المواطنة ومسارها ومآله (3 من 5)

المعيار الحقيقي للمواطنة هو العمل للمصلحة العامة وعدم استغلالها لمصالح شخصية أو عائلية أو سياسية

أطلقت عمدة الثقافة والفنون الجميلة في الحزب السوري القومي الاجتماعي، المنتدى الثقافي الافتراضي عبر تطبيق Zoom ، وكانت البداية بندوة أدارها عميد الثقافة والفنون الجميلة الدكتور كلود عطية وحضرها العشرات من القوميين والمواطنين قدم فيها الأمين البروفسور يوسف كفروني دراسة غنية بعنوان «يوتوبيا المواطنة وتحدياتها».
وحرصاً من «البناء» على وصول الدراسة إلى أوسع مدى من القراء والمتابعين رأت نشرها على 5 حلقات متتابعة. هنا الجزء الثالث من خمسة اجزاء.

‭}‬ د.يوسف كفروني
نص الدراسة – الجزء الثالث
المعيار الحقيقي للمواطنة هو العمل للمصلحة العامة وعدم استغلالها لمصالح شخصية أو عائلية أو سياسية.
الوطن الوطنية المواطن المواطنة مفاهيم أبعد من الدلالة اللغوية.
الوطن ليس مجرّد بقعة أرض ومكان نستقرّ فيه كيفما كان.
الوطن الذي يجب أن نضحّي من أجله هو الوطن الذي تحفظ فيه كرامة كل فرد وحقوقه، هو الوطن الذي نحافظ عليه لأجيالنا بيئة نظيفة صالحة غير ملوّثة.
والمواطنة هي حقوق متساوية للجميع وحفظ هذه الحقوق، حفظها من التعدّي من قبل الآخرين. التعدّي على حق أي فرد هو جريمة يعاقب عليها القانون ولكن الجريمة الأكبر والأخطر هي التعدّي على الحقوق العامة، وما أكثر جرائم الإعتداء على الحق العام ونهب المال العام.
3 -تحديات المواطنة
منذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 تزداد الفجوة بين الأثرياء والفقراء وبين الدول الفقيرة والدول الغنية. وتزداد الحروب المباشرة وغير المباشرة ضد المجتمعات من قبل النظام المهيمن عالمياً. وتزداد المآسي والويلات التي تطال بشكل أساسي الشعوب الفقيرة.
ويستمر الصراع للسيطرة على الموارد الأساسية وموارد الطاقة خاصة.
الحرب العالمية الأولى كانت صراعا على الموارد وليس على المبادئ. وكذلك الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة وما تلاها والحرب اليوم الروسية الأميركية في أوكرانيا. تقاد هذه الحروب من قبل الطبقات الرأسمالية المسيطرة في الدول الكبرى وليس من قبل المواطنين وليس لمصلحتهم في أي مجتمع.
هكذا يتمّ استخدام حقوق الإنسان
في الدعاية والمصالح السياسيّة
تشير التقارير التي تصدرها منظمات حقوقية والتي تصدرها الولايات المتحدة الأميركية حول انتهاكات حقوق الإنسان، إلى وضع غير سليم بخصوص حقوق المواطنة عالمياً. وتشير الردود على هذه التقارير إلى اتهام الولايات المتحدة الأميركية بانتهاك حقوق الإنسان والمواطن وإلى استخدامها هذا الموضوع دعاية سياسية ولمعاقبة الدول والجماعات والشخصيات التي لا توافق سياستها، وفي الوقت نفسه، تغض النظر عن الانتهاكات الي يقوم بها حلفاؤها وجنودها.
بغض النظر عن دقة وصوابية أو خطأ هذه التقارير والردود عليها، فما هو واضح المسار الخطير للبشرية والتحديات الوجودية للمصير الإنساني، مما يجعل حقوق الإنسان والمواطن ومعها حقوق الجماعات والشعوب مسألة ملحّة وأساسية لاستقرار السلام في العالم.
وتردّ الصين على هذه التقارير بتقارير مفصلة حول انتهاكات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة. وتقول الصين في تقريرها:
– الولايات المتحدة بلد له أسوأ سجل في عنف الأسلحة في العالم. فهناك شخص يقتل بالسلاح في الولايات المتحدة كل 15 دقيقة.
– الانتخابات غدت لعبة المال بالنسبة للأثرياء.
– الولايات المتحدة لديها أخطر استقطاب بين الأثرياء والفقراء في الدول المتقدمة.
– تُعدّ الولايات المتحدة حالياً الدولة المتقدمة الوحيدة التي تضم ملايين الجوعى. كان هناك 39.7 مليون شخص يعانون الفقر في الولايات المتحدة، وفقا لأرقام صادرة عن مكتب التعداد الأميركي عام 2018.
– جرائم الكراهية العرقيّة في الولايات المتحدة أصابت العالم بالصدمة.
– الولايات المتحدة هي «أكثر الدول حروباً في تاريخ العالم». أنفقت الولايات المتحدة 6.4 تريليون دولار أميركي على الحروب التي شنتها منذ عام 2001، والتي أسفرت عن سقوط أكثر من 800 ألف قتيل وخلفت عشرات الملايين من النازحين.
أولا، الحقوق المدنية والسياسية مجرد اسم فحسب، حيث تتباهى الولايات المتحدة بأنها «أرض الحرية» و«منارة الديمقراطية»، إلا أن هذا ليس سوى شيء وهميّ لخداع الناس والعالم. إن الافتقار إلى الضوابط بشأن حق حيازة السلاح أدّى إلى تفشي عنف السلاح، ما شكل تهديداً خطيراً لحياة المواطنين وسلامة ممتلكاتهم. إن سياسة المال المتفاقمة تشوّه الرأي العام وتجعل ما يسمّى بالانتخابات الديمقراطية لعبة للأثرياء. (مكتب الإعلام بمجلس الدولة لجمهورية الصين الشعبية مارس 2020)
وفي تقرير آخر 2022 أبرز عناوينه: الفكر العنيف المتجذر يهدد الأرواح – التلاعب بالديمقراطية الزائفة يسحق الحقوق السياسية – التمادي في التمييز العنصري يزيد من تفاقم الظلم الاجتماعيّ – الانحراف عن القيم الإنسانية يؤدي إلى أزمة المهاجرين – انتهاك حقوق الإنسان في الدول الأخرى بالقوة المفرطة والعقوبات (بكين أول مارس 2022 (شينخوا)
وفي المملكة العربية السعودية، تنشر صحيفة الرياض يوم الجمعة 19 آب 2022 مقالاً لصالح النملة تحت عنوان أميركا والاستخدام السياسي لحقوق الإنسان، جاء فيه:
مفهوم حقوق الإنسان اليوم يُعدّ بحق واحداً من أكثر عوامل التأثير الذي تستخدمه الولايات المتحدة الأميركية في سياستها الخارجية من أجل بناء جبهة أو ضغوط تجاه دولة معينة أو مجموعة من الدول، ولذلك فإن مفهوم حقوق الإنسان والتقرير السنويّ الذي تصدره الإدارة الأميركية يُعدّ بمثابة تقرير ومؤشر هام عن توجيه الإدارة الأميركية المبدئي عن سياستها تجاه الدول المختلفة، وبالتالي فإن هذا التقرير يمكن أن يضمّ العديد من الدول التي ترى الإدارة الأميركية أنها لا تعمل بشكل جيد وواضح وكما هو مطلوب منها من قبل الإدارة الأميركية، ولذلك فإن مثل هذه التقارير تُعدّ للدارس والمراقب السياسي مؤشراً هاماً عن توجّه السياسة الأميركية تجاه بعض الدول والقضايا الدولية.
لقد استطاعت الولايات المتحدة الأميركية أن تبيع للعالم أجمل الصور الوردية والإنسانية للعديد من دول العالم ولفترة طويلة من الزمن رغم مذابح وفظائع فيتنام وانقلابات ومؤامرات أميركا اللاتينية والعالم العربي، إلا أن الولايات المتحدة الأميركية لم تغمس نفسها وبشكل مباشر وبشكل مفضوح وبعيداً عن ساحة المعركة، بل وبين جدران وأقبية سجن أبو غريب بهذا الوحل اللاإنساني كل هذا يدور بإدارة وإشراف أميركيين من أعلى المستويات.
وإذا كان سجن أبو غريب مثالاً صارخاً على انتهاك حقوق الإنسان وكرامته ومعتقداته من قبل الإدارة الأميركية، فإن ما يحدث في أفغانستان لا يختلف كثيراً عن ذلك وأن سجن ومعتقل غوانتانامو بالقرب من كوبا يُعدّ بحق أكثر الأدلة على استهتار الإدارة الأميركية بحقوق الإنسان، حيث إن مدة الاعتقال طالت مع تعذيب مستمرّ ودون إصدار اتهام أو محاكمة.
ديمقراطية القلّة
في كتاب ديمقراطية للقلّة، يظهر المحلل السياسي مايكل بارنتي، التناقض بين الرأسمالية القائمة والديمقراطية، وكيف ينتهك النظام الرأسمالي الديمقراطية بشكل مستمر. ويكشف العلاقة القوية بين السلطة السياسية والقوى الاقتصادية. ويجيب على الأسئلة الكاشفة لحقيقة الواقع الاجتماعي والسياسي في أميركا:
ما هو النهج الذي يتبعه النظام السياسي في الولايات المتحدة وكيف يؤدي مهامه؟ ما هي القوى الرئيسية التي تشكّل الحياة السياسية؟ مَن الذي يحكم الولايات المتحدة؟ مَن يحصل على ماذا، ومتى، وكيف ولماذا؟ من الذي يدفع الثمن وبأي السبل يتم ذلك. ويظهر كيف أن الحكومة تمثل أصحاب الامتيازات. وأن قوانين الدولة وضعت لدعم مصالح من يملكون على حساب البقية. ويبيّن السيطرة البشعة لمالكي الثروات الهائلة وقوة طبقة أصحاب الأعمال والشركات العملاقة، وكيف تلتهم موارد البيئة وتسمّم الأرض والماء والهواء. وهي تبتلع ثروات فائضة هائلة وتساعد في الوقت نفسه على خلق وإدامة الفقر لدى الملايين من الناس في داخل الولايات المتحدة وخارجها. (بارنتي، 2005، صفحة 10 و11 و15 و16 و32)
يذكر عالم الاجتماع ألان تورين في كتابه «ما الديمقراطية الآن؟» ليس في واقع الأمر من ديمقراطية دون اختيار حرّ للحاكمين من قبل المحكومين ودون تعددية سياسية. لا يمكن الكلام على الديمقراطية إذا لم يكن أمام الناخبين من خيار إلا فريقين من الأوليغارشية أو الجيش أو جهاز الدولة. (تورين، 2000 ترجمة، صفحة 11)
الأنظمة التي ندعوها بالديمقراطية ينتابها الضعف الذي يصيب الأنظمة الاستبدادية سواء بسواء. وأنها تخضع لمقتضيات السوق العالمية، التي تقوم على حمايتها، وتنظيم شؤونها، قوة الولايات المتحدة. (تورين، 2000 ترجمة، صفحة 12)
الديمقراطية التي أصيبت بالضعف يمكن تدميرها إما من فوق، على يد سلطة مستبدّة، وإما من تحت عن طريق الفوضى والعنف والحرب الأهلية، وإما انطلاقا من ذاتها عن طريق المراقبة التي تمارسها على السلطة كل من الأوليغارشيات أو الأحزاب التي تقوم بتكديس الوسائل الاقتصادية أو السياسيّة لتفرض اختيارها على مواطنين تحولوا إلى ناخبين ليس إلا. (تورين، 2000 ترجمة، صفحة 13)
ضرورة البحث وراء قواعد إجرائية ضرورية، بل لا يستغنى عنها لوجود الديمقراطية، كيف تتشكّل وتعبّر عن نفسها وتطبّق إرادة تمثل مصالح الأكثرية وتمثل في الوقت ذاته وعي الجميع في أن يكونوا مواطنين مسؤولين عن النظام الاجتماعي. (تورين، 2000 ترجمة، صفحة 15)
قبل ذلك نبّه سعاده إلى انحراف الديمقراطية الغربية ودعا إلى إزالة الخلل والفساد الذي لحق بها نتيجة الفلسفة الفردية الليبرالية المتوحشة التي سهّلت للطبقة الرأسمالية استغلال الطبقات الشعبية والأمم الضعيفة ونهب مواردها.
ويقول إن الديمقراطية التي خبرتها الشعوب المتمدنة، حتى اليوم، لم تتمكن من حل الأضاليل الاجتماعية – الاقتصادية التي نشأت مع تقدّم عهد الآلة. فقبل الحرب العالمية الثانية، كانت أوروبة وأميركة ما عدا روسية وألمانية وإيطالية، تعيش في ظل الديمقراطية. ولكن شعوبها كانت متعبة، رازحة. وبلغت أوروبة بديمقراطيتها الفاسدة حضيض الفوضى. والديمقراطية الرأسمالية، أصبحت كابوس العامل والفلاح. وهذه الديمقراطية سهّلت، للمحافظين الإقطاعيين، والرأسماليين، في بريطانية، والرأسماليين في الولايات المتحدة، الوصول إلى ثرواتهم الفاحشة من أسهل الطرق. (سعاده، الأعمال الكاملة 6، 2001، صفحة 93)
توزيع الثروة عالمياً
التفاوت الحالي في توزيع الثروات بين المجتمعات أو داخلها هو الأكبر والأخطر في تاريخ البشرية.
1٪ ينالون 43 ٪ من الثروة العالمية، فيما ينال80٪ من الناس 6٪
300 شخص، من كبار أغنياء العالم يملكون من الثروة العالمية قدر ما يملكه 3 مليارات نسمة.
منذ 200 سنة، كانت البلدان الغنية أغنى من البلدان الفقيرة بثلاثة أضعاف، وفي حقبة ما بعد التحرّر من الاستعمار في الستينيات صار الفارق 35 ضعفا، وهو الآن 80 ضعفا.
يقدّم العالم الغني للعالم الفقير 130 مليار دولار سنوياً على شكل مساعدات من أجل «تنميته». لكن العالم الغني يتلقى سنوياً من العالم الفقير 2 تريليون دولار بثلاث طرق رئيسة:
900 مليار عائدات الشركات العابرة للجنسيات، بواسطة شكل من التحايل على دفع الضرائب يسمّى سوء تسعير تجاري.
600 مليار خدمة ديون.
يخسر العالم الفقير 5. (الاحصائيات من إعداد جيسون هيكل، الأستاذ في كلية لندن للاقتصاد، بناء على إحصائيات الأمم المتحدة) (عامر 2-5-2014)
التفاوت الكبير بين الفقراء والأثرياء هو بطريقة أو بأخرى انتهاك لحقوق المواطنة وكرامة الإنسان.
تتعرّض حقوق المواطن إلى الانتهاك في العديد من الدول حيث تسيطر العصبيات الدينية والطائفية والعشائرية والاتنية وغيرها من العصبيات المحلية التي تقوم على العنصرية والتمييز، والتي تتناقض بطبيعتها مع مفهوم المواطنة. وبالإضافة إلى انتهاك حقوق المواطن لا بدّ من الإشارة إلى انتهاك حقوق الدول والمجتمعات من قبل الدول المسيطرة في النظام الدولي. ولكن تبقى هناك بعض الدول التي حققت تقدماً كبيراً في مجال حقوق المواطن، وذلك بعد نضال كبير وصراع مرير ضد سلطات الاستبداد السياسي والديني بين القرن الثامن عشر والقرن العشرين. وتبقى دول أخرى وأحزاب وجمعيات تسعى لتحسين حقوق الإنسان المواطن.
دول العالم الثالث:
الدول القومية التي ظهرت في القرن العشرين، في العالم الثالث لم تأت وليدة تطور اجتماعي داخلي، بل جاءت في أحيان كثيرة وفقا لإرادة المستعمر. وقد ورثت هذه الدول مخلفات الماضي وأوزاره وعصبياته، فكانت قومية من حيث الشكل فقط، ومحكومة بكثير من عوامل الجهل والبدائية والتخلف.
ان تخلف هذه الدول نابع من كونها لا تزال تعيش ثقافة القرون الوسطى بمفاهيمها وروابطها وهي لم تستطع دخول الثورة الصناعية وتحقيق النهضة اللازمة، وتبقى أسيرة الاستلحاق والاستتباع للنظام العالمي. وتعاني هذه الدول بمعظمها ومن ضمنها الدول العربية من مشاكل عديدة على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
بنية هذه الدول وثقافتها محكومة بالعداء أو التجاهل لثقافة المواطنة وقيمها. تفكك اجتماعي حيث تغلب فيها العصبيات المحلية: عرقية، قبلية، دينية، طائفية ومذهبية.
الدولة تحكم مكاناً جغرافياً محدداً، أي أنها من حيث الشكل جاءت على نسق الدولة – الأمة التي ظهرت في الغرب. ولكن مضمونها محكوم بانتماءات وولاءات سابقة على مفهوم الدولة الأمة. إنها لا تزال محكومة بهوية الدم وهوية الدين، ولا تزال قوانينها وتشريعاتها متناقضة مع أغلب مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يجسد مفهوم المواطنة في الدولة الحديثة، حيث الانتماء للمكان للوطن هو الأساس دون تمييز بين الناس في العرق أو الدين أو الجنس او أي شيء آخر.
وفي لبنان نشأت الطائفية السياسية مع التدخلات الأجنبية وربط مصير كل طائفة بدولة أجنبية. النظام السياسي الطائفي لم ينشأ بإرادة داخلية بل نتيجة تدخلات خارجية بالتعاون مع قوى محلية. هناك باستمرار لعبة الاستقواء بالخارج. والنظام الطائفي لم يجلب الأمن والاستقرار ولم يحقق العدالة.
الطائفية تتناقض بطبيعتها مع الديمقراطية والمواطنة ومع مفاهيم الدولة الحديثة.
الانطلاق من مصلحة الطائفة في مجتمع تتعدّد فيه الطوائف والمذاهب، يؤدي حتما إلى التطاحن بين هذه الطوائف ويدمر الدولة والوطن. الطائفية في لبنان تتغلل في كل مفاصل المجتمع: في الاجتماع والاقتصاد والثقافة والإدارة والسياسة ولا يسلم منها أي قطاع. تستند الطائفية الى رابطة الدم والدين ونمط معرفة ينطلق من مسلمات غيبيّة وتنتشر فيه العقلية الخرافية والانفعالات الغرائزية.
الدول السابقة للدولة الديمقراطية الحديثة كانت تجسّد ارادة فئوية وخاصة ولم تكن تعبر عن إرادة الناس المخضعين لها.
الدولة القومية هي التنظيم السياسي الخاص بالأمة، الذي أعطى الأمة حيوية لم تعرفها في السابق، وأكد مبدأ سيادة الأمة على نفسها وهذا ما حرّر الشعب من أوهام السلطة الخارجية، سواء استندت الى سلطة غيبية أو الى سلطة واقعية خارج الأمة. وهذا ما رسخ مفهوم المساواة وحرر الدولة من الإرادات الخصوصية، فأصبحت الدولة بصفتها المظهر السياسي والحقوقي للأمة هي المعبر عن إرادتها. وهذا ما أعطى المواطنة مفهومها ودلالاتها الحديثة.
المجتمع هو بيئة الاجتماع التي تشكل دورة عمران متواصلة، ودورة حياة واحدة لكل البشر الذين يعيشون في هذه البيئة الواحدة. والمجتمع هو مجمّع المصالح الأساسية الكبرى التي تهم الجميع والتي لا غنى عنها لاستمرار الحياة وتقدّمها فيه.
العصبيات الدينية والدموية تتجاهل حقيقة الواقع الاجتماعي وتتقاتل على تصورات وهمية: العقائد الدينية وعقائد أفضلية العرق والسلالة، لا تخضع لحكم العقل ولا للبرهان العلمي، ولا تقبل بالاختلاف والتمايز وتعتمد على إثارة الغرائز، وشيطنة الآخر والتخويف منه، وتجهيل الناس.
لا يوجد مجتمع في العالم، باستثناء بعض القبائل المعزولة في الغابات والأدغال، لا تتعدد فيه الأديان والمذاهب، والاتنيات والأصول، وتتعدد فيه الاتجاهات والآراء. ولكن يبقى المجتمع أساس وحدة المصالح الكبرى التي تهمّ جميع المواطنين، إضافة إلى مصالح فرعية وثانوية تهم الأفراد والفئات، تسعى الدولة إلى تنظيمها لتأمين العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وضبط الاستقرار والأمن الاجتماعي. إن اعتماد الهويات الدينية أو المذهبية أو العرقية أو غيرها من الجماعات الفرعية، أساسا لتحديد المصالح سيؤدي حتما إلى التصادم وخراب المجتمع.
الديمقراطية والدولة الحديثة ومعها المواطنة تستلزم التفكير العقلاني ونمط المعرفة العلمية وتجاوز العصبيات المحلية من خلال المؤسسات التوحيدية الجامعة على مستوى الوطن. والتركيز على دور التربية ومؤسسات التنشئة الاجتماعية في بناء المواطن واقامة المؤسسات والمصالح الاقتصادية المشتركة العابرة للمناطق والطوائف. وتلعب التربية الدور الأساس في انتقال الفرد من كائن أناني إلى كائن غيري إيثاري. تعلّمه التربية أن مصلحته الحقيقية تتأمن بطريقة أفضل من خلال الشعور بمصالح الجماعة واعتبار أن تحققها هو الأساس لتحقيق مصالح الجميع، ومنها مصلحته. فالصراع بين غريزة وأخرى، كحال الصراع بين القبائل والطوائف، يؤدي إلى الدمار والهلاك. بينما الصراع الفكري يؤدي إلى التقدم والتطور من خلال الحوار والنقد العقلاني لما هو أفضل لخير المجتمع، وبدلا من قتل الإنسان تموت الفكرة غير الصالحة لمصلحة الفكر الأرقى.
مشكلة حقوق الإنسان في الدول الغربية تعود إلى النزعة الاستعمارية التي انتهجتها هذه الدول تجاه المجتمعات الأخرى وازدواجية المعايير التي تنطلق منها وسياسة الهيمنة المالية والاقتصادية التي تمارسها، والفلسفة الفردية الليبرالية التي لا ضوابط لها، وهي أبعد ما تكون عن مفهوم المصلحة العامة. فماذا نرجو من دول يحوز فيها عدد محدود من الناس على موازنات تفوق موازنات عدة دول بشكل كبير؟
إنّ السلام الحقيقي الثابت في العالم، لا يمكن أن يتم على أساس الحجج التي يستعملها هذا الفريق الاستعماري أو ذاك الفريق الاستعماري. السلام الحقيقي الثابت لا يتم إلا على أساس اعتراف كل من الفريقين المتحاربين لشعوب العالم الحرة بحق الحياة كشعوب حرة وليس كشعوب مستعبَدة، ويدخل في ذلك عدم الاستعباد الاقتصادي.» (سعاده، الأعمال الكاملة 4، 2001، صفحة 148)
4 -المواطنة في القومية الاجتماعية
القومية الاجتماعية هي الفلسفة التي جاء بها أنطون سعاده (1904-1949) الذي جرى اغتياله من قبل أركان النظام الطائفي اللبناني في 8 تموز 1949.
يؤكد سعاده على حرية الأفراد وربطها بحرية الأمة، وعلى المساواة التامة بين جميع أبناء المجتمع دون تمييز على أساس الجنس، أو الأصل، أو الدين أو الطائفة أو المذهب، أو الوضع الاجتماعي. المساواة في الحقوق المدنية والسياسية والقانونية وعلى العدل الاجتماعي والعدل الاقتصادي والعدل الحقوقي. يؤكّد على محاربة النزعة الفردية وعلى التربية المدنية وإعطاء الأولوية للمصلحة العامة وتعزيز الوجدان القومي. ويؤكّد أن السلام بين الأمم يكون بترك حرية المصير لكل أمة وعدم ممارسة الاستعباد السياسي أو الاقتصادي.
بدأ سعاده الكتابة في الفكر السياسي وفي الشؤون الوطنية والقومية في عمر مبكر، حيث تعاون مع والده العلامة الدكتور خليل سعاده الذي كان طبيباً ومفكراً سياسياً واجتماعياً. كانت سورية خاضعة للانتدابين الفرنسي والبريطاني اللذين عملا على تقسيمها إلى مجموعة دول بموجب اتفاقية سايكس بيكو 1916 التي تلاها وعد بلفور بإعطاء فلسطين المعروفة بسورية الجنوبية إلى اليهود. كانت سورية لا تزال تعيش ثقافة القرون الوسطى بعيدة عن التطورات الفكرية والسياسية والاجتماعية التي شهدتها أوروبا منذ بضعة قرون.
(يتبع غداً جزء رابع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى