الكيان الصهيوني حبيس مأزقه الوجودي

رامز مصطفى

منذ نشوء الكيان الصهيوني الغاصب للأرض الفلسطينية في أيار 1948، لم يعش الكيان وقادته مأزقاً كالمأزق الذي يعيشونه اليوم، والذي بدأ يتمظهر في العام 2000، أيّ منذ انتصار المقاومة وحزب الله في لبنان. مأزق الكيان الغاصب اليوم وبحسب ما يُصرّح به المسؤولون «الإسرائيليون» يتركز في خطر استراتيجي حيوي، يتمثل في القنبلة الديموغرافية الفلسطينية على أرض فلسطين التاريخية العام 1948. واليوم استجدّ خطر آخر يتمثل في الاتفاق النووي الإيراني التاريخي الذي أبرم في لوزان.

طالما جهد قادة الكيان ومنظرو الحركة الصهيونية وقادتها في العمل بكلّ طاقتهم ووسائلهم من أجل منع ودرء خطر التزايد السكاني للعرب الفلسطينيين. لذلك كان الهدف لدى هؤلاء القادة هو في كيفية الاستيلاء على الحدّ الأقصى من الأرض الفلسطينية، بحسب ما جاء في مذكرات تيودور هرتزل «الاستيلاء على الأرض هو حتمية لإقامة دولة يهودية كبيرة». والأب الروحي أوشيسكين في خطابه أمام اللجنة التنفيذية الصهيونية عام 1937 قال: «يجب ألاّ تمثل الزراعة بالنسبة إلينا طموحاً بحد ذاتها، بل هي المدخل من أجل أن نضمن للأمة أوسع الحدود الممكنة لبلادنا». وأضاف: «ولما وضعنا البرامج من أجل الحصول على الأراضي كان هذا الهدف دائماً نصب أعيننا الاستيلاء على مناطق بعيدة. ففضلاً عن جودة الأرض كانت تحركنا الرغبة لتوسيع الحدود مهما بلغت المصاعب». والبروفسور أرنون سوفير أستاذ قسم الجغرافيا في جامعة حيفا وأبو الجدار العازل، حذر من الخطر الديموغرافي الذي يمثله الفلسطينيون على أرض ما أسماها «إسرائيل»، والذي توقع «أنّ إسرائيل سائرة نحو الانتحار، والحلّ في التخلص من الفلسطينيين وإقامة الجدار العازل».

ويتابع: «انّ الجدار هو السبيل الوحيد لكي ننتصر على رحم الفلسطينيين، فإذا سقط هذا الجدار سيغمرنا طوفان هائل من هؤلاء. وإذا سقط الجدار سقطت إسرائيل». وينهي سوفير كلامه قائلاً: «لا بأس أن نُبقي على أعداد من الفلسطينيين، لاستخدامهم في جمع القمامة والعمل في البنية التحتية الرثة، وكذلك الخدمة في المقاهي والمطاعم». بدوره البروفسور بني موريس يقول: «على إسرائيل أن تواجه في سياق الصراع الدائر معضلات جوهرية، تتمثل في الديموغرافيا، وحق العودة، والاعتراف بحدود إسرائيل». وكان مؤتمر هرتسيليا قد أصدر في كانون الأول 2002 وثيقة أوصت المؤسسة «الإسرائيلية» بإعطاء الأولوية العليا للمشكلة الديموغرافية. وفكرة تبادل الأراضي، وبالتالي إصرار نتنياهو وحكومته على اعتراف السلطة الفلسطينية بـ«يهودية الدولة»، تقع في سياق الأهداف المحمومة التي تعمل عليها «إسرائيل» لحلّ المشكلة الديموغرافية مع الفلسطينيين على أرض فلسطين التاريخية عام 1948. وخاصة في مناطق الاكتظاظ السكاني الفلسطيني في المثلث ووادي عارة، وبذلك يتمّ تأمين التخلص مما يزيد عن 300 ألف فلسطيني.

التحريض العنصري الذي مارسه نتنياهو ضدّ الفلسطينيين خلال انتخابات «الكنيست» الأخيرة، والذي لم يكن وليد اللحظة، أو في سياق ردّ الفعل على كثافة المقترعين العرب الفلسطينيين لصالح القائمة العربية الموحدة، وبالتالي نتنياهو لم يهدف من وراء كلامه شدّ عصب محازبيه للنزول بكثافة إلى صناديق الاقتراع من أجل انتخابه وحزبه وحسب. بل هذه العنصرية والكلام من سياق رؤية يعمل عليها نتنياهو وكلّ جوقة الأحزاب في الكيان. وهو كان قد عبّر عنها عام 2003 عندما كان وزيراً للمالية في حكومة شارون في كلمة ألقاها أمام مؤتمر هرتسليا في دورته الثالثة. ومما جاء فيها: «إننا نواجه مشكلة ديموغرافية، لكنها غير متركزة في عرب إسرائيل. ولذا فإنّ المشكلة الديموغرافية لن تكون قائمة هناك عندما ينتقل هؤلاء السكان إلى السيادة الفلسطينية. وقد حدّدت وثيقة الاستقلال قيام دولة يهودية وديمقراطية. ولكي لا تلغي الديمقراطية الطابع اليهودي للدولة، لذا يجب ضمان أغلبية يهودية»، ويضيف نتنياهو: «إنّ مسألة العلاقة بين الأغلبية اليهودية والأقلية العربية هي مسألة نسيج العلاقات والقدرة على دمج هذه الأقلية في حياة الدولة والاقتصاد والمجتمع من جهة أولى، ومسألة العدد من جهة ثانية. وإذا ما تمّ دمج الأقلية العربية في الدولة، ووصل عددها إلى 35 بالمائة أو 40 بالمائة من مجمل عدد السكان، عندها ستصبح الدولة اليهودية ملغية وتتحوّل إلى دولة ثنائية القومية»، ويخلص نتنياهو إلى القول: «حتى لو بقيَت نسبتهم حوالي 20 بالمائة، فالعلاقات ستبقى تتسم بالتحدّي والعنف، وفي هذه الحالة أيضاً سيتمّ مسّ ادّعائنا بشأن النسيج الديمقراطي. ولذا نحن بحاجة إلى انتهاج سياسة توازن بين هذين الأمرين. وقبل أيّ شيء يتعيّن علينا أن نضمن أغلبية يهودية في دولة إسرائيل».

نتنياهو يخوض وحزبه «الليكود» حرباً حقيقية في مواجهة العرب الفلسطينيين في مناطق فلسطين التاريخية عام 1948. وليس من المبالغة في شيء إذا ما قلنا إنّ نتنياهو يعتبر المواجهة التي يخوضها ومجموعة الأحزاب اليهودية، أهمّ بكثير مما يستثمره في مواجهة ما يسمّيه بالتهديد النووي الإيراني. والسبب واضح هو أنّ ما يعانيه الكيان ونخبه ومجتمعه من مأزق وجودي مردّه إلى الخوف من القنبلة الديموغرافية التي تفوق في تصوّرهم التهديد النووي للجمهورية الإسلامية الإيرانية. لذلك وبعد فشل قادة الكيان ومنذ قيام «إسرائيل» في العام 1948، في استمالة النخب الفلسطينية وتحويلهم إلى مجموعة متعاونين مع السلطات في الكيان، ودفعهم إلى الانخراط في «المجتمع الصهيوني»، على طريق تذوبيهم بشكل كامل. مع تنبّه هذه الأحزاب مع بدايات الإعلان عمّا يسمى دولة «إسرائيل» في منع الفلسطينيين ونخبهم من الالتحاق بالأحزاب اليهودية منعاً لوصول الصوت العربي إلى داخل الطبقة السياسية الصهيونية. على الرغم من تشجيع هذه النخب الفلسطينية على تشكيل أطر حزبية خاصة بها، من خلفية أن تقدّم هذه النخب وتشكيلاتها الحزبية مساهماتها في التعاون مع سلطات الاغتصاب الصهيوني، ولكن السياق التاريخي أثبت عجز توجهات الكيان وقياداته في احتواء أو هضم المجتمع الفلسطيني وصهره في بوتقة مجتمعه الصهيوني.

اليوم وبعد مرور ستة وستين عاماً على اغتصاب فلسطين، لم يتمكّن الصهاينة من الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وفق ما يخططون له، وإنْ نجحوا في مكان ما. ولكن شعبنا لا يزال متمسك بأرضه وهويته الوطنية الفلسطينية، ويخوض مواجهة شرسة لمنع الصهاينة من تحقيق حلمهم التوراتي على أرض فلسطين، في أن تكون دولة قومية للشعب اليهودي. وأثبت شعبنا ونخبه قدرتهم على توحيد الصفوف في معركة الأرض والوجود والهوية. وانتخابات «الكنيست» الأخيرة أكدت على هذه القدرة والتوحد، الأمر الذي يُرعب قادة الكيان ويقض مضاجعهم ويجعلهم حبيسي القنبلة الديموغرافية الفلسطينية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى