ماذا بعد الحرب في أوكرانيا…؟
} زياد حافظ*
في هذه المحاولة الاستشرافية في مطلع 2023 قراءة وتساؤلات لمرحلة ما بعد الحرب في أوكرانيا. ننطلق في هذه القراءة من فرضية نناقشها في ما بعد أنّ روسيا ستحسم المعركة العسكرية في أوكرانيا ما قبل نهاية ربيع 2023. لكن هذا لا يعني انّ الصراع مع الحلف الأطلسي بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص قد ينتهي. فالسؤال يصبح كيف سيتعامل الحلف الأطلسي وخاصة الولايات المتحدة مع الحقائق الميدانية التي تكون قد تحقّقت في الميدان؟
هناك عدة حالات ممكنة ولكن باحتمالات متباينة مبنية على قراءة في ذهنية القيادات الغربية والإمكانيات المتوفرة ضمن ميزان قوّة مختلّ لصالح روسيا بشكل عام وخاصة لصالح المحور العالمي الرافض للهيمنة الأميركية و/ أو الأطلسية. وما يُعقّد المشهد هو اعتبار الطرفين المتخاصمين أيّ روسيا والحلف الأطلسي أنّ الحرب في أوكرانيا حرب وجودية وبالتالي لا يمكن لأيّ طرف أن يتصوّر مخرجاً إلاّ النصر القاطع. وبما أنّ فرضية هذه القراءة تتبنّى حتمية النصر الروسي ما يبقى علينا هو تصوّر ما يمكن أن يقدِم عليه الأطلسي. وعندما نتكلّم عن الأطلسي نقصد بالدرجة الأولى الولايات المتحدة، ثم الاتحاد الأوروبي كمؤسسة، ثم الدول الأوروبية التي تماهت مع سياسات الولايات المتحدة وأخيراً بيروقراطية الحلف الأطلسي كمؤسسة قائمة بحدّ ذاتها. غير أنّ الحلقة الأساسية هي الولايات المتحدة لأنّ ما يمكن أن تقدم عليه سينجرّ بشكل أو بآخر على مؤسسة الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي.
أما الحلقة الأضعف فهي الدول الأوروبية التي ستتعرّض إلى اضطرابات اجتماعية وسياسية بسبب التراجع الاقتصادي الناتج عن سياسة العقوبات المفروضة على روسيا وخاصة في قطاع الطاقة التي كانت تستوردها بشكل رخيص من روسيا دون أن تجد البديل الاقتصادي الذي يحرّرها من الاتكال على روسيا. والنتائج البنيوية على الاقتصاد الأوروبي هي تفكيك البنية الصناعية التي كانت ركيزة الطبقة الوسطى والاستقرار الاجتماعي. ليس هناك من آفاق إيجابية للاقتصاد الأوروبي في ظلّ ذلك التحوّل البنيوي خاصة مع صعود دول الجنوب الإجمالي وفي مقدّمته الصين والهند والبرازيل الذين سيتقاسمون الناتج الصناعي العالمي. دول أوروبا قد تكون دول متاحف التاريخ وللسياحة والترفيه وليس أكثر. فتصبح دولاً لا وزن لها في إدارة شؤون العالم. وهذا الهبوط لن يكون سهلاً بل ترافقه توترات اجتماعية وانتفاضات سياسية تعيد النظر في البنى السياسة والاقتصادية والاجتماعية لهذه الدول. وما سيساهم في ذلك الانحدار الكارثي هو الرداءة غير المسبوقة للقيادات السياسية سواء كانت في الحكم أو في المعارضة. المشهد البريطاني يتلاقى مع المشهد الألماني والمشهد الفرنسي، تلك الدول التي كانت تتصدّر المشهد الأوروبي. فأما دول الأطراف في أوروبا فقد تغرق أيضاً في حروب عرقية ودينية دون أن تكون لها ركيزة تستند إليها. فعلى سبيل المثال وليس الحصر اسبانيا تواجه حركة انفصالية في منطقة كتالونيا، وإيرلندا الشمالية قد تنفصل عن المملكة المتحدة لتلتحق بالجمهورية الإيرلندية، واسكتلندا قد تستقلّ عن المملكة المتحدة، وكورسيكا عن فرنسا، وبلجيكا تنقسم إلى قسم فرنسي وقسم فلمنكي. وما تبقّى من أوكرانيا خارج القبضة الروسية قد يذهب قسم منه إلى بولندا، والقسم الآخر إلى رومانيا ومولدوفيا. خارطة أوروبا مُعرّضة لتغيير جذري أسوة بما نتج في الحروب الأوروبية في القرون الماضية. كما هناك كلام عن انشطار إيطاليا بين جنوب فقير وشمال ثري. أما النعرات الطائفية في منطقة البلقان فمن السهل إشعالها مجدّداً مع سقوط الحكومات المركزية في حقبة الضيق الاقتصادي.
تصدّعات أوروبا
أما الاتحاد الأوروبي كمؤسسة فيشهد تصدّعات داخلية عززتها الإجراءات العبثية بحق روسيا وارتداداتها على الاقتصادات الأوروبية. فالزمرة الحاكمة في مؤسسة الاتحاد الأوروبي ملتزمة عقائدياً بمقرّرات دافوس لإعادة التعيين للاقتصادات القائمة نحو اقتصادات أكثر «لطفاً بالبيئة» على حدّ زعمهم. وهذا التوجه إلى مصادر طاقة نظيفة ومتجدّدة بشكل قسري وسريع سيؤدّي حتماً إلى تفكيك البنية الصناعية القائمة ما يوقع دول الاتحاد في حالة فقر وتراجع حضاري شبيه بالقرون الوسطى. فالطاقة هي مصدر الحضارة والعبث فيها له ارتدادات خطيرة على سكّان هذه الدول. لكن عدداً من حكومات دول الاتحاد يتململ من طغيان الزمرة المسيطرة على الاتحاد خاصة أنها لا تخضع لمساءلة ومحاسبة. وحكومة فيكتور اروبان المجرية تقود حملة التمرّد ضدّ الاتحاد قد تتبعها حكومة صربيا. من جهة أخرى أبدت بعض الدول الأوروبية كألمانيا وفرنسا امتعاضها من استغلال الولايات المتحدة للشحّ في قطاع الطاقة لفرض أسعار اضعاف ما كانت تدفعه لروسيا. ونعتت هذه الدول الولايات المتحدة بالتصرّف «غير الصديق» مع الحليف!
أما الدول الأوروبية فالتصدّعات التي أحدثتها الحرب الأوكرانية تتفاقم خاصة أنّ النموذج الاقتصادي النيوليبرالي المسيطر بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وصل إلى طريق مسدود. كما أنّ النظام النيوليبرالي حوّل السلطة الفعلية للشركات الكبرى وخاصة بيوت المال التي لا تكترث لحال المواطنين. وهذه القوى المسيطرة على القرار السياسي والاقتصادي والثقافي في تلك الدول تستولد نخباً وقيادات من المستوى الرديء على صعيد العلم، والفهم، والأخلاق. وبالتالي ليس في الأفق المنظور إمكانية بروز قيادات أوروبية تضع مصلحة دولها فوق أيّ اعتبار وخاصة تلك الاعتبارات التي تريد إعادة الهندسة الاجتماعية وفقاً لمقرّرات منتدى دافوس. لذلك لا يمكن أن نتوقع خلال السنة الجديدة أيّ تغيير جذري في المشهد الأوروبي إلاّ ربما المزيد من التوترات والفوضى الأمنية والاقتصادية والاجتماعية ما يجعل أوروبا تفقد دوراً كانت تقوم به على الصعيد العالمي. فكيف يمكن وصف سلوك القيادات الأوروبية التي حوّلت أوروبا من ثاني كتلة اقتصادية في العالم، وربما في بعض الأحيان الأولى، إلى مجموعة دول مترهّلة. هذا انتحار جماعي أقدمت عليه قيادات حمقاء بكلّ معنى الكلمة.
تبقى الولايات المتحدة العنصر الأساسي في الحلف الأطلسي. والمشهد الأميركي معقّد حيث الخطاب السياسي السائد لدى المؤسسة الحاكمة وخاصة عند المحافظين الجدد الذين قبضوا على القرار السياسة الخارجية لا يسمح بأيّ تراجع أمام روسيا. لقد أصبحت الطبقة الحاكمة والمحافظون الجدد أسرى الخطاب السياسي حيث الانتصار على روسيا بات شرط ضرورة للبقاء. فلا يتصوّر المحافظون الجدد عالماً وروسيا موجودة على الأقلّ بشكلها الحالي. فلا بدّ من قلب النظام القائم في روسيا والإتيان بنخب سياسية تساهم في تقسيم روسيا إلى عدّة ولايات أو دول ضعيفة تحول دون إمكانية نهوض لدولة لها وزن على الصعيد الدولي. والمحافظون الجدد يحرصون على إجهاض أيّ محاولة للتفاهم مع روسيا تفادياً لحرب قد تخسرها حتماً الولايات المتحدة مهما كانت الكلفة عالية على روسيا. فعلى سبيل المثال وليس الحصر تسبّب المحافظون الجدود تسريب خبر لقاء بين مدير وكالة المخابرات المركزية وليم بيرنز ونظيره الروسي في أنقرة لإجهاض أيّ محاولة لمنع التصعيد في أوكرانيا الذي إذا ما استمرّ سيضع الجيش الروسي في مواجهة مباشرة مع الجيش الأميركي. وهذا الأمر لا يريده الطرفان سواء كان الرئيس الروسي بوتين أو الأميركي بايدن. لكن المحافظين الجدد لهم أجندة مختلفة ولا يكترثون لنتائج حتمية عن مواجهة عسكرية مباشرة بين الدولتين.
أجندة المحافظين الجدد!
السؤال المطروح هو هل يستطيع المحافظون الجدد تجاوز التحفّظات داخل الإدارة الأميركية التي لا تريد المواجهة المباشرة مع روسيا؟ ليس من السهل الإجابة خاصة أنّ المرحلة السابقة شهدت نصر المحافظين الجدد في توريط الولايات المتحدة في الصراع الذي كان بالإمكان تجنّبه مع روسيا. فهم من رفضوا التعامل مع العروض الروسية لحلّ الأزمة في أوكرانيا، وهم بالأساس من قام بالانقلاب على الحكومة المنتخبة شرعيا في أوكرانيا في 2014 وفي مقدمتهم فيكتوريا نيولند زوجة روبرت كاغان كبير المنظرين للمحافظين الجدد. وهم من استعمل اتفاقات منسك في 2015 للمراوغة لتمكين القوّات الأوكرانية لمواجهة روسيا. وهم من أجهضوا الاتفاق الذي تمّ الوصول إليه في أنقرة بين روسيا وحكومة زيلينسكي في نيسان/ ابريل 2022 بعد 3 أشهر من بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. وهم من يدفعون إلى تفريغ ترسانات الدول التي كانت في كنف حلف وارسو وإرسال السلاح والذخائر لأوكرانيا. وهم من يدفعون البنتاغون لتفريع ترسانة الولايات المتحدة من الأسلحة المتطوّرة وإرسالها إلى أوكرانيا. النتيجة لكلّ ذلك هو تدمير كلّ السلاح المتوفر لأوكرانيا وقتل الجنود ودون تحقيق أيّ تقدّم على الأرض. فسجل المحافظين الجدد هو تراكم هائل من الفشل ولكن لا يوجد من يُسائل ويحاسب. ولذلك ستستمرّ إدارة بايدن في ارتكاب الحماقات تلو الحماقات دون تحقيق أي نتيجة لصالح الولايات المتحدة حتى يصبح تحطّم أوكرانيا أمراً واقعا لا يمكن الهروب منه.
المحافظون الجدد لهم أجندة من بند واحد وهي فرض هيمنة الولايات المتحدة على العالم وإنْ أدّى ذلك إلى تدمير الحلفاء وتهديد العالم بحرب نووية لن ينج منها أحد. فهم لا يكترثون لآثار سياساتهم طالما كانوا متمسكين بمفاصل صنع القرار في الولايات المتحدة سواء في الإدارة أو مراكز الأبحاث أو الجامعات أو الإعلام المرئي والمكتوب. وشبكة علاقات المحافظين الجدد لا تقتصر على الولايات المتحدة بل امتدّت إلى دوائر القرار في مكوّنات الحلف الأطلسي وإنْ كانت سياساتهم تدمّر تلك المكوّنات.
استطاع المحافظون الجدد أن يفرضوا سردية بين النخب الحاكمة في الولايات المتحدة والدول الأوروبية المتحالفة معها مفادها أنّ الصراع مع روسيا هو صراع بقاء بينما في الحقيقة هو صراع لتدمير روسيا والاستيلاء على ثرواتها الهائلة من المواد الخام، والطاقة، والمعادن الثمينة والنادرة. كما أنّ حجم روسيا الجغرافي يهدّد مصالح الولايات المتحدة فلا بدّ من تفكيك الدولة الاتحادية. وتعمّ مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة عن خرائط محتملة لروسيا المفككة. وبالنسبة للولايات المتحدة فإنّ الهدف الحقيقي هو الحفاظ على هيمنتها وخاصة هيمنة الدولار الذي يواجه تحدّيات من اقتصادات ترفض تلك الهيمنة. والطابع الوجودي لهذا الصراع مبني على ثقافة الفكر الرأس المالي أن التوسّع هو الوسيلة الوحيدة للبقاء. وتاريخ الولايات المتحدة مبني على التوسّع الجغرافي، في البداية تجاه الغرب حتى الوصول إلى المحيط الهادي ومن ثمّ القفز إلى الجزر في ذلك المحيط وصولاً إلى الفليبين والشاطئ الشرقي للصين.
أما جنوباً، فكانت نظرية مونرو التي منعت الدول المستعمرة في القرن التاسع عشر من التواجد في أميركا اللاتينية وجعلها الحديقة الخلفية للولايات المتحدة. وتحفظ في أدراج الإدارات المتتالية خطط احتلال كندا إذا ما اقتضى الأمر! والآن تعمل الولايات المتحدة على التوسع في القطب الشمالي حيث توجد ثروات نفطية وغازية وشرقاً نحو القارة الآسيوية. وبالتالي لا بدّ من وضع اليد على روسيا.
المشروع الأميركي لوضع اليد على روسيا كان مكتوماً بعد سقوط حائط برلين. لكن سرعان ما تبدّدت الوعود المقطوعة للقيادات الروسية بعدم التوسّع شرقاً للحلف الأطلسي. وحجر الزاوية في مواجهة روسيا هو أوكرانيا وفقاً لنظرية زبغنيو بريجنسكي الذي اعتبر أوكرانيا ضرورة أساسية للقضاء على روسيا. المهمّ هنا أنّ التوسع الشرقي للحلف الأطلسي تجاه روسيا يشكّل خطراً وجودياً على روسيا لا يمكنها تجاهله خاصة إذا ما تمّ نشر الصواريخ البالستية النووية فيها كما يدعو إليه قادة النظام الانقلابي في أوكرانيا. حاولت القيادة الروسية إقناع الإدارات المتتالية بعدم التوسع شرقاً لكن العنجهية الأميركية لم تكترث للهواجس الروسية. لسنا هنا في إطار سرد تطوّر العلاقات الروسية الأطلسية/ الأميركية بل لنؤكّد أنّ صوغ الخطاب السياسي يدعو إلى المواجهة لدرء خطر وجودي يعني الوصول إلى الحرب لحلّ المشكلة. الحرب هنا لن تقتصر على الحرب بالوكالة كما هو الحال الآن في أوكرانيا أو ربما عبر بولندا في ما بعد بل في المواجهة المباشرة العسكرية مع روسيا.
ما يؤكّد عمق الأزمة بين النخب الأميركية مقال صدر يوم السبت في 7 كانون الثاني/ يناير 2023 في صحيفة «واشنطن بوست» والموقع من كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية السابقة في ولاية بوش الابن وروبرت غيتس وزير الدفاع السابق في كلّ من ولايات بوش الابن وباراك أوباما. في المقال اعتراف واضح أنّ الوقت هو لصالح روسيا ولا بدّ من زيادة الجهود الأميركية (أيّ زيادة التمويل والإمداد لأنها مربحة للمجمّع العسكري الصناعي) وذلك لمنع النصر الروسي. فهذا الأمر سيكون له تداعيات كارثية بالنسبة للولايات المتحدة (خاصة للمجمّع العسكري الصناعي) وأنّ إمكانية تغيير تلك النتائج ستكون صعبة للغاية إنْ لم تكن مستحيلة. والهيمنة الأميركية على العالم أصبحت مطلباً «وجودياً» بالنسبة لتلك النخب التي لا تكترث لنتائج تلك الطموحات والتي لا تأخذ بعين الاعتبار التحوّلات التي حصلت في موازين القوّة. فمقال رايس وغيتس دعوة صريحة لاستمرار الحرب مهما كانت النتائج.
فما هي إمكانيات مواجهة مباشرة بين الحلف الأطلسي وروسيا، وبالأخصّ بين الولايات المتحدة وروسيا؟ حقيقة، إنّ المواجهة في أوكرانيا لها طابعان: الأول مع الحكومة الأوكرانية والثاني الذي تمّ إعلانه منذ بضعة أيام على لسان وزير الدفاع الاوكراني أنّ المواجهة هي بين روسيا والحلف الأطلسي. هدف العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا هو تدمير الجيش الأوكراني وخلع النازيين من الحكم في أوكرانيا ومنع الحكومة من الالتحاق بالأطلسي. التطوّرات الميدانية أبرزت تدفق السلاح والذخيرة من مجمل دول الحلف الأطلسي دون أن يغيّر في ميزان القوّة في المعركة الذي كان ولا يزال لصالح روسيا. واليوم تعلن هذه الدول عن نفاذ سلاحها وذخيرتها لتزويد القوّات الأوكرانية بما كانت تملك من بقايا سلاح حلف وارسو. أما السلاح الغربي الذي يسيطر على معظم دول أوروبا الغربية فإنّ معرفة القوّات الأوكرانية بذلك السلاح ما زالت محدودة وتحتاج لوقت طويل للتتأقلم معها.
لكن هل تستطيع الولايات المتحدة الاستمرار بسياسة حرب رغم ضعف الجهوزية. ولا نقصد هنا الجهوزية العسكرية فحسب بل الجهوزية الاقتصادية. يشير الستير كروك وهو دبلوماسي سابق ومن أهمّ العقول السياسية المحلّلة للمشهد السياسي في آخر مقال له بتاريخ 13 كانون الثاني/ يناير 2023 على موقع «ستراتيجك كلتشار فوندشن» إلى أنّ الغرب يتجه تدريجياً لتحويل اقتصاداته لاقتصادات حرب وخاصة في ما يتعلّق بسلسلة التوريد في الإنتاج الصناعي. لكن في رأينا هذه عملية طويلة المدى خاصة بعد تفكيك البنية التحتية الصناعية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وبالتالي القدرة على تحويل الطاقة الصناعية إلى طاقة إنتاجية حربية كما حصل في الحرب العالمية الثانية أمر مشكوك به في المدى المنظور. فاستبدال سلسلة التوريد التي اعتمدت خلال العقود الأربعة الماضية لتوطين مفاصل عديدة من القطاعات الصناعية في عالم الجنوب الإجمالي لا يمكن إنجازه بفترة قصيرة. فروسيا، ومعها الصين وسائر دول الجنوب الإجمالي لن يتركوا المجال لذلك التحويل.
لذلك نعتقد أنّ المعركة العسكرية الاستراتيجية بين روسيا وأوكرانيا قد حسمت في رأينا لصالح روسيا وأنّ ما تبقّى هو ترجمة الحسم الاستراتيجي إلى معالم مادية سواء في التقدّم الجغرافي أو في التغيير النظام السياسي في أوكرانيا وإنْ اقتضى الأمر دخول كييف لفرض نظام جديد. وقد يحصل ذلك خلال سنة 2023.
المواجهة مع الأطلسي طويلة
أما المواجهة مع الأطلسي فقد تطول خاصة أنّ الغرب يراهن على إطالة الحرب دون تدخّل مباشر للولايات المتحدة وسائر دول الحلف الأطلسي. ويعتمد المحافظون الجدد على سيطرتهم على الإعلام والسردية التي تقول بأنّ أوكرانيا «تنتصر» والقضية مسألة إمدادات فقط لا غير. لكن بدأت النخب الحاكمة تواجه معضلة تفسير انهيار خطوط الدفاع الأوكرانية وخاصة في منطقة سوليدار وباخوت. فهل ستتخذ الخطوة التالية بدخول جيوش الأطلسي بشكل مباشر في أوكرانيا؟
المزاج السياسي المعادي لروسيا في دول أوروبا غير مؤيّد للدخول في حرب مع روسيا. استطلاعات الرأي العام واضحة بهذا الشأن. فالمواطن الأوروبي بغضّ النظر عن رأيه في روسيا وحكّامها لا يريد ولا يتحمّل ثمن المواجهة. ولقد بدأت تظهر معالم «التعب» من أوكرانيا. ولكن المنحى الذي نشهده هو عدم اكتراث الحكومات الغربية للرأي العام الداخلي كما جاء على لسان وزيرة الخارجية الألمانية أنّ المانيا مستمرّة بدعم الجهود الحربية في أوكرانيا وأنها لا تكترث لآراء المواطنين وهذا بكلّ وضوح. لكن العديد من المؤشرات تفيد بأنّ الدول الأوروبية غير جاهزة وغير راغبة للدخول في حرب. أما الولايات المتحدة فهناك من يدفع إلى الدخول المباشر إلى أوكرانيا وإنْ كان الوجود العسكري الأميركي كـ «خبراء» و «مدرّبين» و «مستشارين» أصبح من المسلّمات. والمحافظون الجدد يدفعون إلى المواجهة المباشرة بعد استنفاذ الوكلاء علماً أنّ الجهوزية العسكرية الأميركية غير متوفّرة كما جاء على لسان رئيس هيئة الأركان المشتركة مارك ميلي في جلسة استجوابه في لجنة الدفاع في الكونغرس عند استلام مهامه. قال آنذاك في 2018 إنّ الجهوزية الأميركية لا تتجاوز 40 بالمائة وإنّ هدفه هو إيصال الجهوزية الأميركية إلى 60 بالمائة بحلول 2024.
وتأكيداً على ذلك يصدر معهد «أميركان هريتاج فونداشن» تقريراً سنوياً عن الجهوزية العسكرية الأميركية. وعلى مدى السنوات الخمس الماضية لم يتجاوز تقييم تلك الجهوزية مرحلة «الهامشية» أيّ لا تستطيع الحسم في أيّ مواجهة. وإذا أضفنا المحاكاة النظرية للمواجهة العسكرية مع أيّ من روسيا أو الصين أو إيران فكانت النتائج دائماً لصالح خصوم الولايات المتحدة. صحيح أنّ الولايات المتحدة تنفق أكثر من أيّ دولة في العالم لكن هذا الانفاق لا يعني تفوّقاً في الجودة كما تظهر التقارير حول فعّالية ركائز السلاح الجوّي أو البرّي الأميركي. وإذا أدخلنا في المعادلة السلاح المتفوّق الروسي خاصة في الصواريخ الفائقة لسرعة الصوت وغياب وسائل دفاع مضادة له فإنّ التفوّق التكتيكي والاستراتيجي للسلاح الروسي أصبح كاسراً.
وهناك خبراء عسكريون كـ اندري مرتيانوف يشكّكون بالقدرات البشرية لقيادة الأعمال العسكرية حيث خبرة القادة العسكريين الأميركيين في خوض حروب حقيقية ضدّ خصوم لديهم الحزم والعزم لا يُشجّع على إمكانية نصر عسكري. فتجربة الحرب الكورية والفيتنامية والعراقية والأفغانية تدلّ بوضوح إلى أنّ التفوّق الناري لا يعني بالضرورة النصر. لكن بعيداً عن هذه الاعتبارات ما نريد أن نقوله إنّ الولايات المتحدة غير جاهزة على الصعيد العسكري لخوض حرب طويلة مع دولة من طراز روسيا أو الصين على الأقلّ في المدى المنظور. لدى الولايات المتحدة قدرة نارية تدميرية هائلة تستطيع تدمير المعمورة آلاف المرّات ولكن ليس لديها كيف تترجمها في السياسة.
هناك عقول باردة خارج البنتاغون كدوغلاس مكغريغور او لاري جونسون أو فيليب جيرالدي أو راي مكغوفرن أو لاري ويلكرسون على سبيل المثال وليس الحصر تعي هذه الحقائق وتحاول ضبط إيقاع مسار السلطة السياسية. لكن المحافظين الجدد يتربّصون بها ويمنعون أن تصل تلك الآراء إلى مركز القرار. لذلك سيحتدم الصراع داخل الدولة العميقة بين من يؤيّد توجّهات المحافظين الجدد ومن يخشى من الوقوع في الهاوية. ولا نستبعد تكرار مشهد إنشاء لجنة بيكر ـ هاملتون جديدة التي كفّت يد المحافظين الجدد في إدارة بوش بعد الفشل في العراق. البديل عن كفّ يد المحافظين الجدد هو الحرب التي ستكون مدمّرة للولايات المتحدة وللعالم.
وهنا يكمن العامل الداخلي في الولايات المتحدة الذي قد يغيّر المعادلات بين الدولة العميقة والبيت الأبيض. مسلسل الفضائح التي تطال الرئيس الأميركي يتنامى ما يعني أنّ الدولة العميقة تريد التخلّص من إمكانية ترشّحه مجدّداً في 2024. فتعيين محقق خاص جمهوري الانتماء السياسي للكشف عن تفاصيل «الفضائح» يؤكّد أنّ المؤسسة الحاكمة بما فيها قيادة الحزب الديمقراطي تريد التخلّص من جوزيف بايدن والآتيان بـ كمالا هاريس في حال تنحّى بايدن عن منصبه، أو فتح الطريق لترشيح ميشال أوباما في 2024. في مطلق الأحوال فإنّ التطوّرات الداخلية قد تحوّل الأنظار عن الإخفاق في أوكرانيا ويتيح الفرصة لصوغ خطاب جديد يتجاهل الإخفاق في أوكرانيا. التغيير في السياسة التي تفرضه الوقائع يحتم تغيير في الأشخاص وهذا ما يمكن توقّعه في الأشهر المقبلة لمنع التدهور الذي الكارثي الذي يهدّد الجميع.
في الخلاصة نرى ما بعد الحرب في أوكرانيا الانتصار الكاسح لروسيا وتصدّع الاتحاد الأوروبي. كما سنرى تصاعد النقاش حول الدخول الأطلسي بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص في حرب نووية محدودة بالنسبة للمحافظين الجدد. لكن في المقابل لا يستطيعون ضبط إيقاعها لأنّ روسيا لن تستجيب لرغبات المحافظين الجدد. فليس هناك من مواجهة نووية «محدودة»! لذلك لا نتوقع الوصول إلى تلك المرحلة بل ربما بداية تفكيك الحلف الأطلسي الذي فقد جدواه ومصداقيته. أما على صعيد الوضع الداخلي في الولايات المتحدة فتراكم الفشل في السياسة الخارجية سيظهر الحاجة للتغيير. من سيقود التغيير وكيف فهذا حديث ليوم آخر. الرهان هو على ما تبقّى من عقول باردة خاصة في أجواء التردّي لمستوى النخب السياسية في الغرب…
*باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي وعضو منتدى سيف القدس