هل أصبحت الألقاب وكالة من دون بواب؟
} سارة السهيل
تتمتَّع شعوبنا العربية بفطرة شاعرية لطيفة، وتحبّ التودُّد والمجاملة والتقارب مع ناسها وأهلها وعشيرتها وجيرانها، وتعبِّر عن ذلك بألفاظ تجمع ولا تفرِّق، تحنِّن القلوب على بعضها دون أية مصلحة مباشرة أو غير مباشرة، فقط من أجل التعايش بسلام ورحمة ومودة. غير أنها مع خضوع منطقتنا العربية لحكم المماليك والأتراك تشرَّبت مجموعة من الألقاب التشريفية والنعوت التي تفخِّم الحكام والرؤساء والوزراء والأعيان، مثل بيك وباشا، ومعالي وغيرها، كما يحصدها من يستحقها من العلماء المجتهدين والأطباء وحتى المشايخ.
رمزت هذه الألقاب الى تمييز الصفوة الحاكمة من قيادات الجيش والعلماء والأدباء وكبار المهندسين والأطباء والفنانين وغيرهم تقديراً وتبجيلاً لهم على ما قدّموه من خدمات لشعوبهم.
ومع تحوّل منطقتنا العربية الى التحديث فإنّ هذه «التراكيب» التفخيمية والتشريفية لم تمُت ولم تختفِ من حياة شعوبها على اختلاف طبقاتهم وشرائحهم الإجتماعية، بل ظلت متداولة في ما بينهم، لكنها مع الوقت أُفرغت من مضمونها كقيمة عملية أو أخلاقية تضبطها المعايير اللازمة لمنحها لمن يستحق، وأكثر من ذلك أصبحت مبتذلة لأنها ضلت طريق الصدق الى غش الناس وتضليلهم بدعاية إعلامية ممجوجة.
الطامة الكبرى انّ عامة الناس باتت تستخدم أسلوب التفخيم والمجاملة مع بعضها دون أن تأخذ بالاعتبار المعنى الموضوعي لدلالات هذه الكلمات والألقاب، فنجد مثلاً لقب «دكتورة» يطلقه العامة على بائعة في محلّ للعطور من باب اللطافة، مع أنها لم تحصل فعلياً على شهادة الدكتوراة، أو مثل لقب أميرة قد يُطلق على راقصة تجيد فنّ الإثارة، ولقب أديب على كاتب «شخبط» كلمتين ع «الفايس بوك»، ولقب علّامة او محدِّث صار من السهل ان يُطلق على مجرد شخص درس الفقه، وهو لا يزال يستكمل جهوده العلمية في الترقّي العلمي الديني.
إنّ الأمر فعلاً مثير للدهشة والاستنكار بقوة، فكيف يساوي بين المجتهد الموهوب الذي أفنى عمره بالعلم وخدمة الناس، بمن قرأ سطرين في كتاب وأُطلق عليه لقب علّامة؟! هذا بخسٌ لحق الناس في التقدير والاحترام، واختلاطٌ للحابل بالنابل وهدمٌ لفكرة الاجتهاد من أساسه.
فقد نشأنا وتربّينا على انّ حائز اللقب التكريمي قد حصده بكدّه واجتهاده في مجال تخصّصه الفني أو العلمي اوالادبي أو السياسي وهكذا…، كأمير الشعراء أحمد شوقي، وكوكب الشرق أم كلثوم، وعميد الأدب العربي طه حسين، وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، وسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة… فمثل هذه القامات صدَّقها الجمهور، لأنها تعكس قيمة ما قدّموه من أعمال عبر تاريخ طويل من العطاء.
أما نحن اليوم فلا نجد من معاني القيمة في هذه الألقاب إلا الزيف واللعب بعقول الناس وتلقينهم الكذب والنفاق لتحقيق مصالح يومية رخيصة، فالألقاب صارت مجانية على قارعة الطريق تُقدَّم بدون شهادة معتمَدة لشخص عادي يا «باشا»، او لمحبي الشهرة يقول لهم المنافق، يا كاتب يا أديب… طيِّب أين هي كتاباته؟ او لمطرب يا «ملك»! كيف يعني ملك هي الألقاب ليس لها بواب؟
وفي ساحة الفن والرياضة والمذيعين حدِّث ولا حرج، فالألقاب في قرطاس جاهز، ومعظم نجوم الفن اختاروا لأنفسهم ألقاباً وروّجوها اعلامياً للبيع إشباعاً لحاجتهم الداخلية للإطراء وتعظيم الذات، وأيضا لترويج أنفسهم لدى المنتجين والجمهور معاً وتحقيق شعبيتهم واستمرارها.
نجد ألقاباً يحزن لها ويلطم عليها عبد الحليم حافظ وناظم الغزالي وصباح فخري والكبيرة فيروز…
مثل هذه الألقاب الوهمية لن تعيش ولا تدوم لأنها ليست نابعة من الجمهور نفسه بوصفه ناقداً وحكماً على ما يصدره الفنان من أعمال.
وفي الساحة الفكرية والأدبية نجد شيوع ألقاب المفكر والفيلسوف على بعض «الكتّاب» في حين أنّ إنتاجهم الفكري والإبداعي يجافي تماماً حقيقة ما أطلق عليهم من ألقاب، وغالباً ما يتمّ إطلاق هذه الألقاب على أشخاص تتمّ صناعتهم من جانب مؤسسات النشر بهدف تسويق كتبهم وتحقيقاً لكسب مادي دون النظر لقيمة ما قدّمه الكاتب من فكر أو عمل يستحق عليه التقدير والتفخيم مثل قصة مبيعات الكتب التي تضحكني كثيراً.
ناهيك عن أنه في إحدى الدول العربية لا يعرفون معنى الكلمات لغوياً فيطلقون كلمة راقية على من تعمل أعمالاً معيبة أخلاقياً، واعتقد انهم يقصدون جمالها الخارجي فتخونهم لغتهم لاستخدام كلمة راقية التي يجب ان تطلق على صاحبة أصل وفصل وأخلاق وهم يطلقونها على بنات» التيك توك»، ناهيك عن جارة «غارت» من جارتها الطبيبة فأستأجرت من يكتب عنها أنها طبيبة أو دكتورة أو سيدة أعمال، أو «غارت» من قريبتها فدفعت «الفلوس» من أجل أن يُطلق عليها لقب كاتبة مثلاً، أو أنّ رجلاً أعجب بفنان قدير فنزّل «بوست» على وسائل التواصل انه هو أيضاً فنان مع انّ صوته لا يصل حتى لأنفه.
الى متى يستمرّ هذا التزييف والمجتمع صامت ويقبل ايّ شيء،
في حين انّ الساحة العربية مليئة بالمبدعين الحقيقيين والعلماء والفلاسفة وفي الطب والكيمياء وكافة المجالات ولكنهم محجوبون عن الضوء الإعلامي الذي يبرز مواهبهم، ولم يجدوا أيضاً دعماً مؤسساتياً يُطلق العنان لنجاحاتهم وابتكاراتهم.
أظن أنه آن الاوان لكي نفيق من دوامات الكذب والتدليس والألقاب المكذوبة، ونضع الكلمات في نصابها، ونقيس الأمور بميزان العدل، وليس بميزان المزاجات والأهواء والمصالح الشخصية الضيقة، فالمجاملات الفضفاضة بين عامة الناس وحتى خاصتهم قلبت موازين الحق لصالح أيّ باطل، تسبيح شرف الكلمة وقدسيتها أحياناً إشباعاً لتعظيم الذات، فهل نستفيق لنعيد بناء أخلاقنا وقيمنا؟ لا أفقد الأمل أبداً في التغيير.