كلّنا في مواقعنا… سناء
أحمد طيّ
إنّه التاسع من نيسان، وهو يوم مميّز في الذاكرة القومية الاجتماعية، وفي ذاكرة كلّ الأحرار في العالم. ففي مثل هذا اليوم منذ ثلاثين سنة تامّة، شهد العالم منظراً جديداً وحادثاً خطيراً. فتاة لم تكمل ربيعها الثامن عشر، تقرّر وبكلّ جرأة وقناعة، وبكل عزيمةٍ صادقة، أن تفجّر نفسها في العدوّ الصهيونيّ، وقت كان يحتل جنوب لبنان، ويقتل الأطفال والنساء والرجال والشيوخ، ويدنّس الأرض، ويجنّد العملاء، ويشتري الذمم، ويوصل بدبّاباته رؤساء إلى الكرسي الرئاسية.
في التاسع من نيسان عام 1985، قرّرت الصبيّة الجميلة سناء محيدلي، ابنة بلدة عنقون الجنوبية، أن تضحّي بروحها فداءً لتراب الجنوب وهواء الجنوب وأهل الجنوب. عقدت العزيمة على الشهادة، وفي عينيها ألق لا يفقد لمعانه، وفي قلبها حرارة للقاء تراب الوطن.
ومن باب التوثيق التاريخيّ، الذي يحتّم علينا أمانة إيصال الحقائق للأجيال الجديدة، لا بدّ من رحلةٍ في رحاب الزمن، للحديث عن تلك الشابة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، لا كالمتنبّي الذي أتحف عصره بالأبيات والقوافي، إنما كسناء ذاتها، التي جعلت جذوة البطولة تتّقد في نفوس الشباب، لإطلاق كلمة «لا» في وجه الاحتلال والعدوان والاستعمار والاستكبار والقتل والذبح وارتكاب المجازر.
ولدت سناء يوسف محيدلي في 14 آب عام 1968، في بلدة عنقون الجنوبية، توفيت والدتها فاطمة وهي في الثالثة من عمرها، وعاشت بعد ذلك في كنف والدها الذي كان ملتصقاً بها بعد وفاة والدتها، وتزوّج بعد ذلك لتحظى سناء بشقيقة واحدة ـ عبير ـ وثلاثة أشقاء هم: هيثم ومحمد ورامي.
حلمت سناء دائماً ببلدتها، بترابها ورائحتها، ببيتها الصغير، وفيء الشجرة أمامه، كانت تتوق إلى بيت جدّتها، إلى أصدقائها وأهلها.
نمت سناء محيدلي في بيت وطنيّ، إذ كان والدها ممّن يرفضون الظلم والقهر والاحتلال كباقي أترابه، وعلى رغم تواضع العيش والحياة خلال الحرب اللبنانية، بقيت عائلة سناء تسكن بيروت، ومرارة الاحتلال تراود صبية تنظر إلى مستقبل أمة، لا إلى مستقبل فتاة.
نشأت سناء في منزل ذويها في منطقة المصيطبة ـ بيروت، وتلقّت دروسها في مدرسة السريان، لكنها ما لبثت أن تركت المدرسة للعمل في محل تأجير أفلام فيديو يديره فؤاد حبيب. وهناك، طلب حبيب من سناء أن تنسخ كاسيت الفيديو الذي يحتوي على مقابلة مع الشهيد وجدي الصايغ، التي أجريت معه قبيل تنفيذه العملية. وبينما كانت سناء تنسخ الشريط، كانت تشاهد كلّ نسخة تعدّها، وكانت تذرف الدموع وكأنها تشاهده للمرّة الأولى، كانت تقول دوماً لحبيب: «سأكون كالشهيد وجدي، وسأخلّد اسمي»!
تأثرت سناء بعملية الشهيد وجدي الصايغ. كانت تتحدّث عنه بحماسة شديدة، وتخبر صديقاتها وأخوتها عنه، وتقول في قرارة نفسها، إنّها ستقدم على عمل مماثل يتحدث عنه أهلها وأصحابها والعالم بأسره، بكل فخر و بكل اعتزاز.
آمنت بأنّ الشعب صاحب حق، وبأنه أقوى من كلّ الصهاينة المغتصبين، فاعتبرت أن الطريق الوحيدة لتحقيق النصر والتحرير، لا تكون إلا بالمقاومة الباسلة الشريفة. أحبت سناء الجنوب حتى الشهادة، وتأثرت بالمجازر التي نفّذها العدو الصهيوني في الزرارية وجبشيت ودير قانون النهر وغيرها من المناطق الجنوبية، حاولت تنفيذ عمليتها الاستشهادية أكثر من مرّة، إلا أنه كان يُطلب منها التراجع لعدّة أسباب أمنية.
وتتالى الأيام، وسناء محيدلي تصمّم أكثر وأكثر على الاستشهاد، حتى انبلج صباح الأحد 24 آذار 1985، خرجت سناء من منزلها بحجة شراء طلاء للأظافر، إلّا أنها لم تعد إلى حيّها في المصيطبة ذاك النهار. وفي المساء بدأ أهلها البحث عنها، فاتصلوا بالأصدقاء والأقارب، ثم بالأحزاب والأجهزة الأمنية، إنما من دون جدوى، فظنّ الجيران أنها غادرت… للزواج سرّاً.
عند الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الثلاثاء 9 نيسان عام 1985، قادت سناء سيارة من نوع «بيجو 504» بيضاء اللون، ومجهّزة بـ200 كيلوغرام من مادة الـ«تي أن تي» شديدة الانفجار، تعبر السيارة الحاجز المقام في منطقة باتر ـ جزين في طريقها نحو الجنوب اللبناني، وقد سبق للسيارة أن توقفت وراء الحاجز المقام للعبور نحو الجنوب، ثم انضمت في ما بعد إلى طابور طويل من السيارات، وبعد عبورها الحاجز الأوّل، لم تكمل طريقها، بل سارت ببطء ومن دون أن ينتبه أحد من جنود الاحتلال الصهيوني أو العملاء لما تقدم عليه سناء، التي كانت تقود السيارة وتتجه بكل عزم وإصرار نحو قافلة عسكرية «إسرائيلية»، تتحرّك في المنطقة، ضمن إجراءات القيادة العسكرية «الإسرائيلية» لإخلاء معدّات من مواقعها في القطاع الشرقي من جنوب لبنان، استعداداً لتنفيذ المرحلة الثانية من الانسحاب.
لاحظ أحد جنود العدوّ أنّ السيارة لم تكمل طريقها وفق ما أشار إليها أحد حراس نقطة التفتيش، فاقترب منها محاولاً التدقيق في هويّة الفتاة التى كانت تقودها، لكنّ سناء كانت أكثر إصراراً وتصميماً وسرعة، فانطلقت بسيارتها باتجاه القافلة، واجتازت حاجزاً حديدياً كان موضوعاً بشكل أفقيّ أمام مركز التجمّع، وأمامه عوائق صغيره متعدّدة، فأطلق حامية الحاجز الصهيوني رشقات من الرصاص باتجاه السيارة، لكن إصرار سناء وعزيمتها، كانا أسرع في الوصول إلى تجمّع القافلة، وضغطت سناء على قابس كان يشكّل لحظة العبور، العبور إلى المجد والعزّ والخلود. فجّرت نفسها، وفجّرت معها رؤوس صهاينة إرهابيين جبناء، سقط منهم ما يقارب خمسين قتيلاً وجريحاً، واحترق عدد من الآليات والدبابات، فضلاً عن حالة الهستيريا التي انتشرت في صفوف من تبقى من جنود العدو الذين بدأوا بإطلاق النار عشوائياً.
هذا ما حدث على أرض الجنوب في ذلك اليوم النيسانيّ الربيعيّ، أما في أقصى شمال البقاع، فكنتُ على موعدٍ مع الخبر الجميل. يومذاك، كان عمري فقط عشر سنوات. يومذاك، كانت القناة التلفزيونية الوحيدة التي نلتقط بثّها في منطقتنا هي التلفزيون السوري، الذي دأب على بثّ المقابلات الخاصة مع الاستشهاديين، والمصوّرة عبر الفيديو. ولدى وصول والدي المسؤول في الحزب من عمله في مدينة بعلبك، أخبرنا أننا بعد قليل سنسمع خبراً عظيماً علينا أن ننتظره. ومضت السويعات القليلة ساعات ثقيلة، وبعد الـ«جنيريك» القصيرة لنشرة الأخبار على التلفزيون السوري، لم يظهر مقدّم النشرة، بل ظهرت شابة، عروس، صبية، ملاك، قالت: «أنا الشهيدة سناء محيدلي، عمري 17 سنة…».
وقُطع عرض الشريط ليظهر مقدّم النشرة ويقول في عرض عناوينها: «عملية استشهادية بطولية في جنوب لبنان تنفّذها عروس الجنوب الشهيدة سناء محيدلي…». حينئذٍ، التهبت بلدتي النبي عثمان ابتهاجاً، رصاص يشبه ذلك الذي كان يطلق خلال المهرجانات والأعراس، زيّاحات في الشوارع، هتافات وزغاريد وصيحات، وأذكر أن مقدّم نشرة الأخبار أكملها وحيداً، لأن أهالي البلدة جميعاً، تركوا منازلهم، وصاروا في الساحة.
قالت سناء محيدلي الكثير الكثير في وصيّتها، ولدى سماعها كلّ مرّة، لا بدّ أن ننهل دروساً في البطولة والتضحية. هي مارست البطولة، ولم تخف الحرب إنما كانت تخاف الفشل. طلبت منّا، نحن الشباب، ومن الأجيال الجديدة، أطلب من جميع شابات وشباب بلادي، أن نلتحق بصفوف المقاومة الوطنية لأنها وحدها قادرة على طرد العدو من أرضنا. فكيف نكون مسؤولين أمام هذه الوصية.
من استطاع إلى القتال الحربيّ سبيلاً ذهب وقاتل وأصيب واستشهد وأدّى قسطه لعلا الوطن. ومن يستطيع إلى القتال الحربيّ سبيلاً وتتاح له الفرص فليذهب من دون تخاذل، لأن شرف الشهادة وسامٌ يعتبر من أرقى الأوسمة، ولأنّ الشهداء هم طليعة انتصاراتنا الكبرى.
ومن لم يحظَ بتلك الفرصة، عليه بالقتال في موقعه. الطالب في دراسته وتحصيله العلميّ، العامل في إنتاجه، الفلاح في تشبّثه بأرضه وإعطائها من حبّه لتنتج له غلالاً وثماراً. الفنان في فنّه الراقي النابع من أصالة بلادنا لا من سخافة المستورَد. الرسّام والنحّات والمدرّس والسياسيّ… كلّ فردٍ منّا يمكنه ـ في موقعه ـ أن يكون.. سناء. كلّنا، في صدقنا وتمسّكنا بحقوقنا وسعينا إلى تحقيقها، وحبّنا لأرضنا وشعبنا، نكون… سناء.
نعود إلى عروس الجنوب، إلى لحظة الاستشهاد، إلى الصورة التي لطالما راودتني كحلمٍ لا يموت. إذ ربما في تلك اللحظة، لحظة الكبس على قابس الموت، ربما أغمضت سناء عينيها لبرهة قصيرة جدّاً، ومن المحتمل أنّ سناء خلال تلك البرهة رأت شريط حياتها يُعرَض بسرعة أمامها. فرأت نفسها طفلةً رضيعةً تبكي لحظة الولادة، ورأت نفسها طفلةً تلعب في حديقة منزل صغير في عنقون كانت تذكره جيداً. ربما رأت أرجوحةً، أو شجرةً، أو ساقيةً صغيرة. ربما تراءت لها مدرستها، صديقاتها، وربما استطاعت أن ترى منزل أهلها في المصيطبة، وإيلي ـ ابن فؤاد حبيب ـ الذي كانت تشتري له الهدايا، ووالده فؤاد عندما كانت تعمل لديه. وإذا كانت سناء قد رأت كلّ ذلك في ومضةٍ من العمر، فمن المؤكد أنّها رأت يدَ وجدي الصايغ تتلقّفها لترافقه إلى عرس الخلود.
سنون ثلاثون مضت على عملية عروس الجنوب الاستشهادية البطولية. والقوميون الاجتماعيون يردّدون كلّ تاسعٍ من نيسان: «كلّنا في الجنوب سناء»، ولهم ولكلّ أبناء الوطن، ولكلّ أحرار العالم نقول: «كلّنا في مواقعنا… سناء».