إيران: من فنّ التفاوض النووي إلى التقليدي… والقطاف

حسن شقير

مباشرة، وما أن تُلي بيان التفاهم النووي في لوزان، حتى خرج الرئيس باراك أوباما من البيت الأبيض تالياً بيان التعليل النووي له، مفنّداً بأنّ السبيل لوقف الاندفاعة الإيرانية نحو الاقتراب من صنع القنبلة النووية، لم يكن إلا ّعبر الطريق الذي سلكته أميركا في التفاوض، والذي أفضى إلى هذه النتيجة، مبيّناً أنّ الخيار الثاني، كان خيار الحرب، التي لن توقف تلك الاندفاعة، إنما قد تؤخرها فقط، أما الخيار الثالث، فكان خيار التجاهل لتلك الاندفاعة، والتي كانت ستعيد أميركا مجدّداً إلى الخيار الثاني – أيّ الحرب – وبالتالي ستكون النتيجة هي ذاتها.

إذاً، باختصار وبشكل مباشر، وباعتراف العدو بعد الصديق، فقد أتقنت إيران كيفية إدارة ملفها النووي بميزانٍ من ذهب، وعلى امتداد سنوات عديدة خلت، فكانت النتائج في بُعدها النووي، مطابقة لما كانت تطالب به، ومنذ اليوم الأول للتفاوض، وكذا بما دون النووي، وذلك بانتزاع الإقرار الدولي بضرورة رفع العقوبات الدولية عنها، وذلك بشكل متزامن مع التوقيع العتيد للاتفاق قبل نهاية حزيران المقبل.

لقد أصاب بحق من قال «إنّ إيران باعت أميركا قنبلةً نووية وهمية، لا بل أنها حصّلت، إضافة إلى ثمنها النووي السلمي، ورفع العقوبات عنها… بأنها ركزت – وبفعل حذاقتها التفاوضية – قواعد اشتباك جديدة مع أميركا، لتمثّل انتصاراً عظيماً للسياسة الإيرانية، لا يقلّ أهمية عن التفاهم النووي بحدّ ذاته، والذي كان بالإقرار الأميركي في فصل السلة النووية عن السلة المتكاملة للحلول في المنطقة برمّتها، والتي كنا – منذ سنوات خلت – نعتقد إثمارها إنجازاً عظيماً لإيران – إنْ سارت أميركا في ذلك – وها هي قد فعلتها بالأمس، بأن رضخت للمبدأ والنتائج على حدّ سواء.

لمن يعتقد، بأنّ هذا التوصيف أعلاه، فيه شيء من المغالاة، وأنّ رضوخ أميركا لمبدأ الفصل في الملفات، لا يمكن أن نعدّه إنجازاً إيرانياً… نحيله إلى كلام لنتنياهو في اليوم التالي لإعلان التفاهم، بأنّ «أيّ اتفاق نهائي يجب أن يتضمّن اعترافاً إيرانياً صريحاً بحق إسرائيل في الوجود»، وذلك في اعتراف وتأكيد لكلّ ما كنا نقوله ونكتبه في ما مضى، بأنّ القضية لدى الصهاينة مع إيران، ليست نووية مع أهميتها، إنما تتخطى ذلك لموضوعي عدم الاعتراف الإيراني بما يُسمّيه الصهاينة «حقهم في إقامة دولتهم اليهودية» على أرض فلسطين، فضلاً عن ضمان أمنها المنشود… وكنا أشرنا في العام 2010، ضمن ورقة بحثية، إلى أنّ رئيس الاستخبارات الصهيونية السابق، عاموس يادلين، كان قد أقرّ في محاضرة ألقاها في جامعة تل أبيب بتاريخ 15-12-2009، بأنّ «الساعة التكنولوجية للبرنامج النووي الإيراني قد اقتربت من إكمال دورتها» والعمل يجب أن يكون على «تبطيء الساعة الديبلوماسية» مع مزيد من العقوبات على إيران، إلى أن تحين «ساعة اهتزاز استقرار النظام»! ليأتي الردّ سريعاً من أوباما على مطلب نتنياهو الأخير، بأنه لا يمكن إدراجه ضمن الاتفاق العتيد، وذلك في رضوخ أميركي جلي لفصل سلال الحلّ، وتجزئتها.

يمكن الجزم من خلال ما استعرضناه، بأنه من أول نتائج المفاوضات النووية الحالية، كان – وبكل تأكيد – تعطيل القنبلة النووية الصهيونية، ونزع صاعقها، وذلك بمجرّد نزع صاعق القنبلة النووية الوهمية في إيران… وبالتالي فإنّ السلاح النووي قد نُحّيَ جانباً في إطار المعركة المفتوحة ما بين الجمهورية الإسلامية والكيان الصهيوني… وهذا أيضاً انتصار إضافي يصبّ في خدمة الإستراتيجية الإيرانية التقليدية أساساً في إزالة الكيان الصهيوني من الخريطة الدولية.

إذاً، كان المفاوض الإيراني النووي، حاذقاً في تثبيت قواعد اشتباك جديدة – ما دون نووية – مع الكيان الصهيوني، يقوم على اعتراف دولي بدور إيراني مفتوح في المنطقة، غير مقيّد بعقوبات دولية، ويقوم على مبدأ التنافس التقليدي المقبل بين طرفي الصراع في المنطقة… فإنّ التساؤل الذي يطرح نفسه في اليوم الذي سيلي توقيع الاتفاق النووي :

إذا كانت إيران بحذاقتها النووية السياسية، قد أعادت التوازن إلى الصراع مع الكيان الصهيوني، وذلك بحلته التقليدية، وضيّقت الخيارات أمام أميركا في كيفية التعامل مع إيران ذي الصبغة النووية… وذلك بتجنّب المواجهة العسكرية معها… فهل يمكن لها تكرار السيناريو النووي ذاته مع أميركا، وذلك في تضييق الخيارات أمامها في التقليدي أيضاً، وبالتالي تحقيقها لنتائج وأهداف إيرانية آنية، وبدون الاضطرار إلى حرب عسكرية معها، أو حتى مع الكيان الصهيوني؟

لكي نحاول الإجابة على هذا التساؤل المحوري، لا بدّ من التأكيد على أنّ الأفخاخ التي نصبت، وستنصب في مسار الديبلوماسية الإيرانية، لا يمكن لها أن تتوقف، وكان آخرها الفخ اليمني، والذي اعتقد ناصبوه، بأنّ إيران ستقع في شركه… مع علم هؤلاء بأنّ إيران لم تقع سابقاً في شرك السلة المتكاملة للحلّ، ولا شرك الدخول في الحلف الأميركي لمحاربة الدواعش، ولا في فخ إقامة الحلف الموازي له مع بعض شركائها في العالم.

بالعودة إلى ذلك التساؤل، ومحاولة استشراف الإجابة عليه، يجدر القول إنّ الحذاقة السياسية لإيران ستشتغل مجدداً على خط فكفكة ما تبقّى من السلة المطلوب حلها في المنطقة، والتي تتمثل في دور إيران في المنطقة، وكيفية مواجهة الأحلاف المقابلة، والتي تعمل أميركا على قيامها فيها، هذا فضلاً عن استراتيجية إعادة بوصلة الصراع في المنطقة إلى عنوانها الصحيح، والذي يتمثل بالقضية الفلسطينية، والصراع الوجودي مع الكيان الصهيوني.

إذاً، ضمن الخط البياني أعلاه، ستسير الديبلوماسية الإيرانية في المنطقة، وهي متأبّطة اليوم أوراق قوة جوهرية فيها، والتي عملت في كلّ هذه السنوات على تجميعها، وذلك من خلال اللعب في نفس الملعب الأميركي، وفي فن القيادة من الخلف… فعلى صعيد الدور الإقليمي في المنطقة، فإنّ هذا الأخير – ووفقاً لتلك الاستراتيجية الخلفية – ستعمل على تجييره إلى شركائها وحلفائها في المنطقة، وذلك في كلّ من اليمن والعراق وسورية ولبنان، وصولاً حتى فلسطين… وهذا التجيير يرفع عن إيران عبء الدخول المباشر في الإقليم، ويُحرج الآخرين لأنه يفرض عليهم اتباع السلوك ذاته، وبالتالي ستصبح المعادلة، إما البقاء للأقوى، ومن يقف خلفه، وإما الوصول بمحركي ومالكي مفاتيح الإرهابيين في المنطقة، ومعهم أولئك ممّن يسمّونهم بالمعتدلين، بأن يُذعنوا – وبفعل هزائم من يتكلون عليهم على الأرض – لمنطق التفاوض الجدي والحقيقي، والذي يبحث فعلاً في مرحلته الأولى – على الأقلّ – في توحيد النظرة ما بين إيران ومحور الممانعة من جهة وتحالف أميركا من جهة ثانية في كيفية محاربة الإرهاب واجتثاثه، وبشكل جدي ومفروض عليهم هذه المرّة.

عند الوصول إلى هذه المرحلة، والتي بانت تباشيرها في العراق واليمن، ولاحقاً عند الحدود اللبنانية ـ السورية، وتالياً في سورية، ومن على جبهتيها الشمالية والجنوبية على حدّ سواء… الأمر الذي سيمكّن إيران من تحقيق انتصار تقليدي أولي، يتمثل في فكفكة ما تبقّى من السلة التفاوضية في المنطقة، لتعود معها تلقائياً بوصلة الصراع نحو فلسطين مجدّداً، وذلك أيضاً من دون أن تغرق في أية معركة مباشرة لم يحن أوانها بعد.

ضمن هذه الاستراتيجية التالية للاتفاق النووي – والتي بدأت بها إيران بالفعل، وقبل توقيع الاتفاق – ستسير الديبلوماسية الإيرانية في تضييق الخيارات الأميركية وبعض الصهيوعربية وإسلامية في كيفية التعامل معها، بحيث ستعمل إيران – ومن خلال تلك الاستراتيجية على حشر أولئك مجدداً في خيارات أوباما الثلاثة أعلاه… فإما سيلجأون إلى إطلاق اليد العسكرية في مقابل إيران مباشرة، وبالتالي ستكون فاقدة للحجة والعواقب على حدّ سواء، وإما سينأى هؤلاء بأنفسهم عن الاستراتيجية الإيرانية للقيادة من الخلف في المنطقة، وبالتالي ستأتي النتائج وخيمةً على مشاريع هؤلاء فيها… مما سيعيدهم مجدّداً إلى الخيار الأول مع نتائجه… وإما سيرضخون للخيار الأحادي الثالث في التفاوض القسري معها على إعادة ترتيب مواقع النفوذ في المنطقة، والتي سيكون على رأسها، وفي مقدّمة شروطها الإيرانية، يتمثل في تهشيم البوصلة نحو الإرهاب المستحدث فيها.

بكلمات معدودة، وإذا ما سارت الجمهورية الإسلامية في هذا المسار أعلاه، فإنّ موسم القطاف الإيراني في التقليدي، لن يكون – وبكلّ تأكيد – أقلّ دسامةً مما حصّلته من القطاف النووي…

باحث وكاتب سياسي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى