الجنيه المصري في مهب الريح…!
} د. علي أكرم زعيتر*
قبل بضعة أشهر من اليوم كان الدولار الأميركي يعادل 16 جنيهاً مصريّاً، فيما بات اليوم يعادل 32 جنيهاً.
هناك أسباب كثيرة، بمقدورها أن تفسّر لنا هذا التدهور التراجيدي في سعر صرف العملة المصرية، ولكن ليس هذا ما نتوخاه من بحثنا المقتضب، لذا سنصرف النظر عن ذلك، وندخل مباشرة في صلب الموضوع فنسأل: إن مصر تسير في الركب الأميركي منذ ما يزيد عن 45 عاماً، تحديداً منذ إبرامها اتفاقية كامب ديفيد في عهد الرئيس السادات، ما يعني أنها تحظى برضا أميركي تام، ومع ذلك فإنّ عملتها المحلية في تدهور مستمر منذ آذار الماضي، فما سبب ذلك؟
تقوم المعادلة التي نعتقد بصوابيتها على ما يلي: إنّ تدهور سعر صرف العملات المحلية في كلّ من لبنان وفنزويلا وسورية وإيران واليمن مردُّه إلى الحصار المالي والسياسي الذي تفرضه الولايات على هذه الدول بسبب سياساتها المناوئة لواشنطن، فما الذي دهى مصر حتى فقدت السيطرة على سعر صرف عملتها، علماً أنها من الدول المحظية أميركيّاً؟
إنّ مجرد طرح السؤال، يعني أنّ المعادلة التي نؤمن بها أو نعتقد بصوابيتها، لا صحة لها، والدليل أنّ هناك دولة مرضي عنها أميركيّاً، ومع ذلك تعاني ما تعاني من انهيار في سعر صرف عملتها، فكيف نخرج بحلّ مقنع وعلمي لهذه المعادلة؟
في الحقيقة، إنّ رضا الولايات المتحدة، أو سخطها قد يكون مدخلاً للكثير من الأزمات أو الانفراجات على حدّ سواء، لكنه لم ولن يكون العامل الوحيد في تحديد مصير الدول. فالولايات المتحدة، وإنْ كانت القطب الوحيد المهيمن على العالم، والممسك الأول والأخير بتلابيب الاقتصاد العالمي، إلا أنها البتة لا تملك فانوساً سحريّاً بمقدوره حلّ كلّ مشاكل العالم، والدلائل على ذلك كثيرة ومتنوعة.
إنّ مَثَلَ مصر كمَثَل اليونان، كلتاهما تدوران في الفلك الأميركي، وكِلتاهما عانتا من تدهور اقتصادي كبير، وصل حدّ الإفلاس في اليونان، وعليه، أما آن لنا أن نخرج بمعادلة جديدة، تضع حدّاً للتخبُّط الذي وقعنا فيه، عندما تبنّينا المعادلة الأولى بحذافيرها؟ معادلة جديدة من قبيل: ليس كلّ من ترضى عنه الولايات المتحدة محظيّاً أو مُنعَماً عليه بالضرورة، وليس كل من تسخط عليه معرضاً لشظف العيش بالضرورة، ومصر واليونان خير برهان!
حسناً، معادلة جديدة يمكن أن نبني عليها وجهة نظرنا للأعوام المقبلة، ولكن يبقى السؤال، كيف نستطيع أن نخرج من المأزق الذي أوقعنا فيه أنفسنا حينما تحدثنا بثقة مطلقة في مقالاتنا السابقة عن أن ما يحصل في لبنان وفنزويلا وسورية وإيران واليمن، إنما هو نتيجة مباشرة للضغوط الأميركية؟ ألا يحتمل أن يكون السبب في ذلك هو فشل تلك الدول في إدارة أزماتها، تماماً كما هو حال مصر واليونان؟
في الحقيقة، لا مأزق ولا من يحزنون، فالمعادلة التي أرسيناها سابقاً سليمة مئة بالمئة، وذلك للأسباب الآتية:
أ ـ إذا سلمنا بأنّ كلّ ما يحدث في العالم من أزمات مالية واقتصادية مردُّه إلى الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة على الدول المناوئة لها، فهذا يعني بالضرورة أنّ الأزمة المالية التي تعصف بالولايات نفسها منذ أمد بعيد مردُّها إلى الحصار الذي تفرضه واشنطن على نفسها، وهذا منطق عقيم، يُضرَب به عرض الحائط!
ب ـ يخبرنا التاريخ عن دول كثيرة كانت متعاونة مع واشنطن إلى أقصى حدود، ومع ذلك عانت من كوارث اقتصادية أفضت بها إلى الهاوية، وليست بعيدة عنا تجربة الأزمة المالية التي عصفت بالاقتصاد العالمي بين عامَي 2007 و 2008، والتي أدّت إلى انهيار مصرف ليمان براذرز الأميركي (LehmanBrothers Holdings Inc).
ج ـ إنّ واشنطن، وإنْ كانت تمسك بتلابيب الاقتصاد العالمي، بعدما نجحت سابقاً في دولرته، إلا أنها لا تمتلك مفاتيح العالم كما يتوهّم البعض، فهناك مفاصل كثيرة في العالم ليس بوسع الولايات المتحدة الإمساك بها، من بينها البؤر التي تعيش تحت جناح القوتين العظميين المناوئتين لها (روسيا، الصين).
إنّ الواقعية السياسية تحتم علينا أن نقارب سياسات واشنطن من منظور جديد، فالولايات المتحدة أولاً وأخيراً قوة عظمى محدودة القدرة، وليست إلهاً معبوداً فائق القدرة، ما يعني أنّ أموراً كثيرة في العالم قد تفلت من يدها، تماماً كما حصل في اليونان ومصر وسواهما.
د ـ إنّ إخفاق ساسة مصر في وضع خطة اقتصادية واضحة المعالم، لا يمكن أن نلقي بتبعاته على واشنطن أو أيّ من القوى الإقليمية، فالهدر الحاصل في مصر، والإنفاق الحكومي غير المدروس على مشاريع البنى التحتية التي لا طائل منها، والتي أرهقت ميزانية الدولة، دون أن تأتي بأيّ مردود إيجابي على الخزينة، لا يمكن لأيّ قوة عظمى في العالم أن تغطي تبعاته، حتى ولو كانت الولايات المتحدة.
هـ ـ يبدو أنّ إدارة السيسي كانت تعوّل على بعض المنح والهبات غير المشروطة من الدول الخليجية، ييد أنّ حسابات الحقل لم توافق حسابات البيدر. فالخليجيون المشغولون حاليّاً بحرب اليمن، والتي شارفت على عامها السابع، قد استُنزفوا ماليّاً، بشكل لا يصدّق، ما حال دون تلبية حاجات مصر الملحة.
و ـ سياسة الاقتراض التي انتهجتها حكومة السيسي، والتي جعلت مصر مرهونة بالكامل لشروط صندوق النقد الدولي، هي الأخرى كانت سبباً رئسيّاً في تدهور الوضع المالي هناك.
يكفي أن نعلم في هذا السياق، أنّ مصر قد اقترضت حتى الساعة، أربعة قروض ضخمة من صندوق النقد، وأنّ من ضمن الشروط التي فرضها الصندوق على مصر، حتى وافق على إقراضها هو تحرير سعر الصرف، وإضفاء شيء من الليونة عليه.
إنّ شرطاً كهذا، كان كفيلاً لوحده، بضرب بنية مصر المالية، ووضع عملتها في مهبّ الريح.
فإذاً، لم نخطئ حينما نظَّرنا لمعادلتنا إياها، ففي البلدان المناوئة لأميركا لعب الحصار المالي الأميركي الدور الأبرز في ضرب اقتصاديات تلك البلدان، أما في البلدان الموالية لها كحال مصر، فإنّ عبثية الخطط الاقتصادية المعتمدة فيها، مضافاً إليها سياسة الابتزاز التي ينحوها صندوق النقد الدولي مع مديونيه، قد أوقعت تلك الدول في مزالق، كان لا بدّ أن تخسر بموجبها شيئاً من قيمة عملتها المحلية، وهذا بالضبط ما حصل لمصر.
هل تخرج الولايات المتحدة حليفتها مصر من عنق الزجاجة، أم تتركها عرضة لتقلبات سعر الصرف؟ هذا السؤال، قد يكون من المبكر الإجابة عليه، لا سيما في ظلّ الحرب الروسية الأوكرانية المستعرة، والتي جعلت اهتمام الولايات المتحدة ينصب على بقعة جغرافية واحدة في الوقت الحالي، فيما لم تعد تكترث كثيراً لمصير حلفائها في الشطر المشرقي من العالم (الشرق الأوسط)، امتثالاً لما يُعرف في علم السياسة بقاعدة الأولى فالأولى.
يبدو أنّ أولوية أميركا الحالية الجبنة الأوكرانية، وعليه سيغدو من الصعب التنبّؤ بمصير مصر، ومآل عملتها المحلية، في المدى المنظور…
*مؤرخ وباحث لغوي وسياسي