أخيرة

التنمُّر إرهاب اجتماعي وجب اجتثاثه…

سارة السهيل

باتت سلامتنا الاجتماعية على المحكّ بعدما تزايدت جرائم التنمُّر في مجتمعاتنا، نعم انها جريمة بكلّ المقاييس بحق السلم والأمان الاجتماعي والنفسي للأفراد والجماعات، والتنمُّر هو أحد أسباب هلاك الإنسان البريء إما بالموت عندما يتعرّض لتنمُّر مستمرّ لا يقوى على دفع شرّه عنه فيصاب بمتلازمة القلب المكسور ثمّ بالموت المفاجئ، مثلما حدث مع الفتاة البريئة “رودينا” التي لم تكمل الأربعة عشر ربيعاً، عندما تعرّضت للتنمّر المستمرّ من زميلاتها في المدرسة، وكثرت شكواها لوالديها دونما استطاعتهما وقف العنف الواقع على ابنتهما.
وإذا بـ “رودينا” في آخر لقاء لها بالمدرسة تعود لأسرتها وتشتكي كالعادة مشاكلها مع زميلاتها فيغمى عليها، وسرعان ما تفقد الحياة اثر أزمة قلبية حادة! إنه ثمن باهظ دفعته هذه الفتاة البريئة لجريمة التنمُّر المخالفة لكلّ قِيَم الأخلاق والأديان؟! وما ذنبها إذا كانت جميلة المظهر او غير جميلة، فقيرة او غنية، قوية او ضعيفة البنيان؟
والمصيبة الكبرى عندما يأتي التنمُّر من الأب رمز الحماية والأمان، الذي قد يدفع ابنته للانتحار كما حدث مع “فاطمة مرجان” التي أنهت حياتها استشعاراً منها بكراهية والدها لها عندما علًّق على إحدى منشوراتها على “الفيسبوك” “ربنا ياخذك ويريِّح الدنيا منك.”
فلماذا صار القتل في مجتمعاتنا عملية سهلة نحصد بها أرواح الأبرياء بكلمة ساخرة، أو تنابذ بالألقاب أو بطش صاحب قوة أو سلطان أو مدير عمل، او حتى رب أسرة يمارس سلطته بتوحُّش بحق أبنائه؟ أو من أمٍّ تقهر ابنتها بزعم تربيتها؟
لماذا تراجعت بوصلة الحب والتراحم في ما بيننا؟ وأيّ سعادة نشعر بها عندما نتنمَّر على بعضنا فتكون النتيجة دمار إنسان بالموت او فقد توازنه وسلامته النفسية والاجتماعية للأبد؟
أيّ سعادة يجدها المتنمِّر عندما يتسبّب في قهر من هو أضعف منه وإهلاكه روحياً وقلبياً؟
أين مؤسسات المجتمع من هذه القضية الخطيرة، عندما لا تنتبه لخطورتها والتعاون في ما بينها لوضع حلول جذرية لمحاربتها كما تتعاون في محاربة الإرهاب؟ بل انني أزعم أنّ التنمُّر هو إحدى حلقات الإرهاب الاجتماعي المفزع، والذي يتطلب تعاون كلّ المؤسسات التربوية والثقافية والدينية والقانونية في ملاحقته والقضاء عليه.
للأسف الشديد انّ ظاهرة التنمٌّر تغطي بعدوانيتها وبطلجتها كلّ الفئات العمرية في المجتمع، وكلّ الفئات الاجتماعية والطبقية ايضاً، وتزايدها يمثِّل ناقوس خطر يدمّر قيَم الأخلاق الكريمة، لأنه في النهاية يهدف للإضرار بالأخرين عمداً جسدياً او نفسياً، ويعكس بداخله كراهية وحقد غير مبرّرين بحق شخص بريء.
يشمل التنمُّر سلوكاً عدائياً غير أخلاقي من التنابذ بالألقاب، أو الإساءات اللفظية أو المكتوبة، أو الاستبعاد من النشاطات، أو من المناسبات الاجتماعية، أو الإساءة النفسية والجسدية، أو الإكراه، والتحرّش، وكلّ هذه المعاني المكروهة حذرت منها الأديان السماوية، لاعتبارها انّ التنمُّر يشكِّل انتقاصاً من كرامة الإنسان واحترامه، ولذلك جاءت آيات الله المحكمات لتنهي عن السخرية والاستهزاء من الآخرين او عدم احترامهم، حتى لا يفقدوا احترامهم لذاتهم،
وكما قال تعالى في سورة الحجرات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
والطامة الكبرى ان يكون التنمُّر من البيت (الأم أو الأب أو الأخوة) و”يعايروا” الآخر بأنه سمين مثلاً أو يضع نظّاره أو عنده مشكلة بالكلام أو المشي، أو أنه غير ذكي أو غير متفوِّق أو لا يركِّز، وبدلاً من معرفة أسباب المشكلة وعلاجها يتمّ التنمُّر عليه، حتى لو كانت المشكلة لا حلّ لها، فالقصة باحتضان الشخص وتقبلّه كما هو.
أما في المدرسة فيتمّ التنمُّر على الأطفال في ما بينهم بسبب انتشار المخدّرات والكحول في بعض المدارس الدولية فيتمّ التنمُّر على الأولاد الملتزمين، كما يتنمّرون على الطفل المتفوّق ويدعونه بكلمة (nerd،
وصادف أنني قابلت طفلاً لبنانياً لأمّ مصرية بعمر ١٤ عاماً في مصر متفوِّق ومؤدّب، لكنه يتعرّض للضرب والاعتداء داخل المدرسة اللبنانية العالمية، والإدارة لا تحميه لأنّ أقساط المدرسة باهظة ولا تريد خسارة هذه المبالغ أذا ما أقدمت على طرد الأولاد المتنمّرين.
وفي المدارس الفقيرة جداً فإنّ بعض الطلاب يحاولون جرف الباقين للعمل في الترويج للمخدّرات أو الهرب من التعليم أو الانسياق إلى علاقات غير سوية والدخول في عصابات، ومن لا ينساق يتمّ التنمٌّر والتعدّي عليه بالضرب والتعذيب والتهديد والابتزاز.
وهناك التنمُّر على الشكل والملابس والحالة المادية، وأحياناً يتمّ الابتزاز بالصور و”الفيديو” للطالبات اللواتي افتقدن التربية والتثقيف الديني والأخلاقي داخل الأسرة ولم يتعلمنَّ كيف يحافظنَ على أنفسهنَّ وعفتهنّ وكرامة أجسادهنَّ.
أما في دور الأيتام فالحال أسوأ كثيراً، حيث يتمّ التنمُّر على الأطفال من قبل الأمهات والآباء البديلات بل وأحياناً يتقصَّد أصحاب أمراض نفسية من حب السادِّية والتعذيب بأن يقدم على وظيفة في دار أيتام أو دار مسنين حتى يفرغ شحنات مرضه في هؤلاء لأنهم ضعفاء!
لذا أقترح بل يجب إطلاق مبادرة لإجراء الفحص النفسي على من يعمل في المدارس ودور الأيتام ودور المسنين.
وحتى بعض الأُسَر المتبنّية للأطفال يرتكب جرائم تشيب لها الرؤوس، مثلما تابعت قصة قتل زوجين لطفلهما المتبنّى غرقاً وتعذيباً في الماء الساخن. فحتى موضوع التبنّي الذي كنت اعتبره إنقاذ الطفل مِنَ الملاجئ حالياً أصبح خطراً للأسف الشديد، فهناك مخاوف من استغلال أطفال التبنّي في أعمال غير مشروعة او بيع أعضائهم البشرية أو لأغراض تخريب او الدخول في منظمات إرهابية.
وفي ظني انّ الحلّ الوحيد، انّ كلّ يتيم او مُسّن أن يقيم مع أقاربه أو معارفه المقتدرين، وأكيد انّ كلّ عائلة فيها “حدّ مرتاح”، او تحت رعاية المراكز التي تتمتع بإشراف ورعاية سليمتين.
فالتنمُّر لم يقتصر على المدارس والجامعات وفي العمل بل تجده في وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً، في تعليق الناس على الصور او المواضيع بما يدلّ على قلة أدب وسوء تربية وليس فقط المراهقين والأطفال وإنما أحياناً تجد تعليقات من رجال ونساء كبار في السنّ يفترض بهم الوعي والنضج ولكن للأسف تجد العكس، وفي الشارع حين تمرّ فتاة ويتمّ تعليق النساء على شكلها وملابسها وتسريحتها ومكياجها هو فعلاً أمر مقيت، وكذلك في الأعراس بدلاً من التمنيات الطيبة للعروسين نجد التعليقات على الملابس والأكل وترتيب الطاولات ولا يسلم من فم “المعازيم” شيء،
حتى في دور العزاء وبيت الأجر تجد المعزّين بدلاً من تلاوة آيات كريمة والدعاء للميّت “يفصّلون الناس تفصيلاً” ويعلّقون على زوجة المتوفي إذا كانت متماسكة ويقولون إنها جاحدة وغير متأثره بوفاة زوجها، أو ابنة المتوفي إذا كانت منهارة يقولون تفتقر للإيمان ويتبلّون على أخته بأنها تبحث عن الإرث.
أما في الأسواق فيتمّ تصنيف الناس حسب ما يستطيعون شراءه بنظرة فوقية عنصرية من قبل الأغنياء اتجاه الفقراء ونعتهم بالفقر والوسط الاجتماعي المنخفض، وأيضا تجد نظرة الفقير للغني ووصفه بالحرامي وسارق الأرزاق وأنه يشتري منتجات باهظة الثمن من تعبهم ومن حقهم، وهذا كله ليس بالضرورة صحيحاً، فمن الممكن أن يكون الغني شريفاً وتعب في ربح ماله، ومن الممكن ايضاً ان يكون الفقير متعلّماً وذا أخلاق رفيعة ومستوى ثقافي محترم، فلماذا هذه التصنيفات التي يتبعها تنمُّر وتصوُّر خاطئين وتصدير الأحكام.
كما انّ التنمُّر لم يسلم منه مغمور او مشهور فنجد انّ الكلّ تطاله التعليقات اللفظية السيئة خاصة عندما يطلقون ألفاظاً نابية على السيدات!
كما انّ استخدام التنمُّر من قبل بعض الجماعات المتطرفة بشكل مقصود اتجاه بعض القضايا وذلك لزرع الخوف والرهبة والتراجع وخاصة في قضايا المرأة، فعلى سبيل المثال انْ كان من بين النساء المحتشمات المحترمات المدافعات عن قضايا المرأة بإطار لا يخرج عن الدين والأخلاق العامة امرأة فتتعرّض يومياً للاتهام بشرفها والتعليق على أحوالها بالافتراء كنوع من الإرهاب التنمٌّري كي تستسلم وتترك القضية خوفاً على سمعتها،
ولم يقتصر التنمُّر على المرأة بل طال الرجال في شتى المواضيع حتى تمّ رسم شكل معيّن للرجل لا يستطيع الخروج عنه سواء شكلاً او هنداماً وفرض عليه ان يدخل في إطار التعليب المجتمعي لإصدار مستنسخات من البشر يجب ان تكون جميعها متشابهة وايّ اختلاف مرفوض رغم انّ الاختلاف أحياناً كثيرة ليس إلا تمييزاً محبباً بل تفوّقاً عن الآخرين.
وفي الأمور المادية أيضاً يتنمّرون على الأطفال في المدارس، ملابسهم وطعامهم وصندوق الطعام الخاص بهم، وأصبح الأمر تباهياً وتبارياً ومن خالف القاعدة يتعرّض للتنمّر.
حتى نوع المدرسة وأقساطها والنادي الرياضي بل حتى اسم الحذاء الرياضي أصبح معرضاً للفحص والتدقيق فإما يأخذ تصريح الدخول او يتعرّض للتنمٌّر من أصحاب الأمراض الأخلاقية والتربية غير السوية وعلى الأغلب من حديثي النعمة المتكبّرين لأنّ الأصيل ابن الأصيل لا يمكن أبداً أن يكون بهذه الصفات الشيطانية القبيحة.
أخيراً أتوجه للأسرة والأهل آباء وأمهات بالعربي العامي (ربّوا أولادكم) قبل أن ينتشروا في المجتمع بسوء أخلاق وسلوك معيب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى