إيران قلب آسيا الاستراتيجي
ناصر قنديل
– إذا كانت روسيا تتمسك باستمرار بالنظرية الأوراسية تأكيداً على نصفها الأوروبي، ومثلها تفعل تركيا، بانتظار الظروف المناسبة لتظهير هذا النصف استراتيجياً وسياسياً واقتصادياً، فإن الصين ومن بعدها الهند، الواقعتين في الطرف الشرقي من آسيا تتراصفان كمعدة وكبد في الجسد الآسيوي تحتله الصين بامتياز، حيث تتمّ عمليات الإنتاج وامتصاص العائد الغذائي وإعادة تدويره في عمليات إنتاج جديدة، بينما ترتضي الهند مؤقتاً بدور الأمعاء حيث عملية التمثيل الغذائي الصعبة والمعقدة، تقع إيران في الوسط المحوري التناظري بين الجهات الأربع لآسيا، شمالها وجنوبها وشرقها وغربها، بحدود برية مع تركمانستان وأذربيجان وأرمينيا وأفغانستان وباكستان والعراق وتركيا، وحدود بحرية مع روسيا أذربيجان، تركمانستان وكازاخستان عبر بحر قزوين، ومع الكويت والعراق والإمارات والبحرين وقطر والسعودية وعمان عبر الخليج وبحر عمان، أي ما مجموعه ست عشرة دولة، تضعها على مسافة دولة واحدة من كل دول آسيا تقريباً، بما فيها الهند والصين وسورية والأردن.
– إذا كانت فلسفة الجغرافيا السياسية لنهوض آسيا الذي تشكل روسيا الصاعدة عسكرياً وسياسياً والصين الناهضة اقتصادياً وسياسياً علامته الفارقة، هي الاستقلال، سواء بمفهوم الدولة الوطنية المستقلة الذي تباهي الصين وروسيا باعتباره نموذجها الجامع القابل لتقبل الآخر بخصوصيته على قاعدة التمسك بقبول الآخرين بالمثل بهذه الخصوصية، أو بمفهوم استقلال آسيا عن مشروع الهيمنة الغربية الذي شكلت حروب الإخضاع الأميركية أداة انتهاكها الفاضحة والواضحة، فإن إيران المنفتحة إيجاباً على الترحيب بعلامات الصعود الروسي والنهوض الصيني بصفتها علامات استقلال آسيا كمجموع واستقلال دولها الرئيسية بالمفرد، فإن إيران ولو لم تتباه بموقعها الريادي في صناعة هذا المفهوم للاستقلال وتحملها التبعات الأشدّ صعوبة للدفاع عن هذا المفهوم، تبقى الدولة التي تصدّرت بين دول آسيا المواجهة المفتوحة بأشدّ الشروط صعوبة وقسوة مع مشروع الهيمنة الغربية والحروب الأميركية، وهي منذ إعلان جمهوريتها الإسلامية على خط تماس هو الأصعب والأعقد مع الهيمنة وحروبها، وهي التي أخذت على عاتقها دعم ورعاية المواجهات التي خاضتها دول وشعوب آسيا في وجه الهيمنة وحروبها، من أفغانستان الى العراق الى سورية ولبنان وصولاً الى اليمن وفلسطين، وليس خافياً أنه لولا هذه المواجهات التي تشكلت خلالها ظروف تراجع المشروع الغربي بنسخته الأشد وحشية لبأس قادتها واشنطن، والتي شجعت روسيا والصين على التقدم الى صفوف المواجهة المباشرة، لكن قضية إيران بقيت خارج دائرة المعايرة الذاتية بأولوية موقعها، بل الاستثمار على كل تقدّم في موقف وموقع كل من روسيا والصين، للسير قدماً نحو آسيا مستقلة. وهذا هو مضمون موقف ايران التي ضحّت بالاتفاق النووي لتشجيع روسيا على الاستثمار في صناعة النصر في سورية.
– بهذه العين تتعامل إيران مع الدور الصيني في رعاية التفاهم مع السعودية، وبمثله مع الانخراط السعودي في تفاهم ترعاه الصين، وفي كليهما سياق متقدّم لمفهوم آسيا المستقلة، لأن القضية التي حملها الاتفاق الثلاثي الصيني السعودي الإيراني الى الواجهة أبعد بكثير من اتفاق إيران والسعودية على إعادة العلاقات الدبلوماسية والتعاون في حل المشاكل الإقليمية، لأن القضية الأبرز في هذا الاتفاق هي استعداد الصين لتحمل تبعات الدخول في منافسة مباشرة مع الأميركي على رعاية الاستقرار الاستراتيجي في الخليج وضمان أمن ممرات ومنابع الطاقة، بما يعني تحمل تبعات موقع الدولة العظمى، وهو خطوة متقدّمة في سياق تغيير المعادلات الاستراتيجية الحاكمة للجغرافيا السياسية والاقتصادية في آسيا، وبالتوازي استعداد السعودية للتموضع تحت مظلة استراتيجية مستقلة عن الهيمنة الأميركية تفرضها حسابات المصلحة الوطنية، وهو ما يعني تقدّم مفهومي الدولة المستقلة وآسيا المستقلة معاً. وهذه الأهداف بالنسبة لإيران تستحق بذاتها ما يتجاوز التفاصيل البينية، فكيف إذا كانت هذه التفاصيل تحمل إيجابيات كافية للدفع بها إلى الأمام.
– يبقى الأهم أن ما بنته إيران من مقدرات للمواجهة خلال أربعة عقود رسم قانون الحرب الحديثة، بصفتها حرب الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيّرة، التي يقول الخبراء اليوم إنها حرب القرن الحادي والعشرين، وإنها الحرب التي تشكل إيران فيها دولة أولى في العالم. وهذا يمنح إيران فائض قوة في حساب الموازين المحدّدة لأي حرب، كما يبقى الأشد أهمية أن استقلال آسيا لا يستقيم مع بقاء كيان الاحتلال كقاعدة عسكرية متقدمة للغرب، وتبقى إيران أكثر دول آسيا وضوحاً وجذرية في خوض الصراع مع هذا الكيان. وهذا يمنح إيران قيمة مضافة لا يملكها سواها من دول العالم عموماً وآسيا خصوصاً، لجهة التموضع في خندق الاشتباك الأول مع الكيان.
– إيران هي القلب الاستراتيجي لآسيا المستقلة.جمهورية وإنقاذ لبنان من الانهيار.