ما خلفية التصعيد العدواني «الإسرائيلي» في سورية وما الردّ الأنسب…؟
} العميد د. أمين محمد حطيط*
توقف المراقبون عند العبارة التي تضمّنها بيان الدولة السورية اثر العدوان الجوي «الإسرائيلي» الأخير عليها والتي جاء فيها: «لن تمرّ بسلام هذه الاعتداءات، وقد أعذر من أنذر»، وطرح السؤال حول طبيعة السلوك السوري المستقبلي حيال الاعتداءات «الإسرائيلية» التي اشتدّت وتكثفت مع اشتداد التظاهرات والحركات الاحتجاجية في داخل الكيان الصهيوني واستهدفت في حالات عدة أماكن غير عسكرية، الأمر الذي يطرح سؤالين… الأول لماذا أو ماذا تريد «إسرائيل» بالضبط من عدوانها المكثف هذا والمتسارع الوتيرة الى حدّ كاد يصبح في الأيام الأخيرة عدواناً يومياً ينفذ مع فجر كلّ نهار، والثاني كيف ينبغي الردّ لإحباط العدوان وإفشال أهدافه؟
قبل الردّ على التساؤل، نذكر بأنّ «إسرائيل» كرّرت منذ مطلع هذا العام عدوانها ثماني مرات حيث طالت مطارات مدنية وعسكرية وبنية تحتية وأحياء سكنية، وطال عدوانها الأخير بشكل خاص مطارات الضبعة والشعيرات وT4 ، بعدما كانت استهدفت سابقاً مطارات دمشق وحلب، مدّعية أنها تستهدف “مراكز إيرانية أو قواعد لفصائل موالية لإيران او خطوط نقل السلاح الإيراني”، ويبدو أن “إسرائيل” أساءت تقدير الردّ السوري او فهمه، الردّ الذي اكتفى حتى الآن في معظم الحالات بتشغيل منظومات الدفاع الجوي للتصدّي للصواريخ والطائرات المعادية التي تطلقها فيسقط بعضها أو معظمها، لكن مع هذا التصدي تتمكّن بعض الصواريخ المعادية من الوصول الى أهدافها وتحدث فيها خسائر مادية وأحيانا بشرية.
فسورية اكتفت بالتصدي الدفاعي للعدوان الجوي “الإسرائيلي” لأنها لا تزال في حرب دفاعية تمارسها وفقاً لجدول أولويات وضعته وأظهر نجاعته في منع من شنّ الحرب الكونية عليها من تحقيق أهداف حربه رغم ما أحدثته او تسبّبت به تلك الحرب من خسائر على شتى الصعد، ولكن يبدو أنّ الأمور وصلت الى مرحلة دفعت الدولة السورية لإصدار موقف يتعدّى في سقفه السلوك الجاري وتضمّن البيان الأخير عبارة “ولن تمرّ بسلام هذه الاعتداءات، وقد أعذر من أنذر”، ما فسّره الإعلام “الإسرائيلي” بأنه “تهديد غير عادي” ولغة جديدة تعتمدها سورية وتشكل تلويحاً ببداية مرحلة جديدة في التعامل مع الاعتداءات “الإسرائيلية”، وهنا يُضاف الى ما سبق من أسئلة سؤال آخر يتضمّن البحث في طبيعة تلك المرحلة التي لن تكون كما سبقها.
ونعود الى الدوافع التي حملت “إسرائيل” أو حفزتها على عدوانها المكثف على سورية في هذه الفترة التي أعقبت اضطرار نتنياهو وتحت وطأة الضغط الشعبي والانقسام الداخلي حتى في صفوف الجيش، الى تأجيل التصويت على ما يسمّيه “خطة إصلاح القضاء”، الخطة التي تقزم دور القضاء في مراقبة الحكومة وتضعه تحت قبضتها من حيث تعيين القضاة وصلاحياتهم، يُضاف الى ذلك المتغيّرات الإقليمية التي بدأت بـ “صلح بكين” بين إيران والسعودية والتي وصلت حتى الآن الى مرحلة التحضير لعودة سورية لإشغال مقعدها في الجامعة العربية وإعادة العلاقات الطبيعية بينها وبين معظم الدول العربية بعد قطيعة 12 عاماً.
فـ “إسرائيل” في ظلّ حكومة نتنياهو اليمنية المتطرفة باتت كياناً منقسماً بعمق لا يستبعد ان يدخل في حرب أهلية او هو الآن على عتبتها، وجيشها يتراجع في معنوياته ويعرض في بعض شرائحه عن الخدمة أو التدريب أو الالتحاق بمراكز الخدمة والتطوّع، وهو وضع لم تشهده “إسرائيل” منذ اغتصابها لفلسطين.
أما في داخل فلسطين المحتلة فإنّ المقاومة الإبداعية تضغط على “إسرائيل” وتكشف وهنها وعجزها كما ومحدودية التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية ما يضطر “إسرائيل” الى زجّ المزيد من القوات المسلحة في مواجهة الفلسطينيين في الضفة الغربية كما وتتجه الى إنشاء ميليشيا تعهد في إدارتها الى وزير يميني متطرف يريد إنشاء ما يسمّى “الحرس القومي” رغم ما يسبّبه ذلك من سخط واعتراض داخلي يفاقم ما سبّبته “خطة إصلاح القضاء”.
هذا في الداخل أما في الإقليم فإنّ “إسرائيل” تنظر بعين القلق الشديد للرياح التي تهبّ على المنطقة العربية ومحيطها الإسلامي رياح تعاكس الأهداف التي أمِلت تحقيقها من “الربيع العربي” من شرذمة وتناحر وتدمير المنطقة وتهجير أهلها، فها هي السعودية تصالح إيران، وها هي سورية على وشك العودة لإشغال مقعدها في الجامعة العربية وتتجه لإنهاء الاحتلال التركي بالطرق السلمية، وها هي السعودية تتحضّر لإعادة العلاقات مع دمشق ودعوة الرئيس الأسد الى مؤتمر القمة العربي السنوي الذي سيعقد في الرياض في 19 أيار المقبل.
يبقى الحديث عن العلاقة بين أميركا وحكومة نتنياهو، أميركا في ظلّ رئاسة بايدن الذي يتهمه نتنياهو بانه يشجع التظاهرات ضدّه، هذه العلاقة باتت في وضع غير مريح لرئيس حكومة الكيان الذي رفض البيت الأبيض حتى الآن دعوته اليه وامتنع بايدن عن تحديد موعد للقائه منذ أن تولى مسؤولية منصبه.
ويبدو أنّ “إسرائيل” أرادت القفز فوق هذه البيئة المقلقة لها عبر تكثيف اعتداءاتها على سورية تكثيفاً تؤمل منه حجب مآزقها وإخفاء وهنها، حيث يرى نتنياهو أنّ العدوان المكثف هذا من شأنه حجب سلبيات واقعه والتذكير بقوته وهو يظنّ انّ الأمور لن تتخذ إلا مساراً من اثنين:
ـ الأول ردّ سوري محدود لا يؤلم “إسرائيل” ولا يتجاوز سقف السلوكيات السابقة ويستمرّ متقيّداً بجدول أولويات العمل والدفاعي السوري الجدول الموضوع من قبل القيادة السورية آخذاً بعين الاعتبار الاحتلال الأجنبي والتهديد الإرهابي، وهنا تكون “إسرائيل” عكّرت البيئة السورية والإقليمية وتمكّنت من الادّعاء بأنّ الحرب في سورية لم تنته بعد وانّ إمكانية تسعير النيران موجودة وأنها تملك قوة ميدانية كافية للتأثير في الميدان ما يمكنها من الزعم بأنها “تتصدّى بالنار للوجود الإيراني وحلفائه في سورية” وتقطع الجسور الجوية والبرية للاتصال بين مكونات محور المقاومة، وبأنّ جيشها يملك الجهوزية الكافية لمعالجة ذلك.
ـ الثاني ردّ سوري وحليف يتخطى السلوك الحالي، ردّ ألمحت له سورية بعد العدوان الأخير بالقول “لن تمرّ بسلام هذه الاعتداءات، وقد أعذر من أنذر”، وهنا تتلقف “إسرائيل” الردّ وتطوّره الى “حرب محدودة” يستجديها نتنياهو لتخرجه من مآزقه، حرب تتخطى مقولة “المعركة بين الحروب” لتصل الى مستوى “الحرب الفعلية المحدودة” التي يكون من شأنها أن تفرض سكوت الداخل وتسوية العلاقة مع أميركا وتعكير صفو الحركة الإقليمية التي تجري الآن لمصلحة سورية، وكلها نتائج تصبّ لصالح نتنياهو وإسرائيل كما يظنون. فهل هذا الظن موضوعي؟
قبل الإجابة نذكر بأنّ سورية أتقنت منذ البدء وضع جدول أولوياتها واستعمال قدراتها ما جعلها تقول الآن وهي مطمئنة بأنها أفشلت الحرب الكونية عليها، ثم نذكر بانّ “إسرائيل” تزعم بأنها تستهدف على الأرض السورية الوجود الإيراني وحلفاءه ما يجعل مسؤولية الردّ الدفاعي مسؤولية الجميع، ولهذا فإننا نرى انّ الردّ الأكثر ملاءمة الآن والذي لا يشكل خدمة لنتنياهو او تحقيقاً لمصالح “إسرائيل” هو الردّ الذي يتخطى التصوّر “الإسرائيلي”، ويكون وفقاً لأحد مسارين:
ـ الأول أن تتضافر الجهود السورية مع الحلفاء لتطوير منظومة الدفاع الجوي السوري بحيث تصل فعاليتها الى حدّ منع الطيران “الإسرائيلي” من التحليق ليس في الأجواء السورية فقط بل وفي محيطها بعمق 50 كلم بما يفرض نوعاً من الحظر الجوي فوق لبنان والجولان السوري المحتلّ، كما وتتمكن من إفشال أيّ عدوان جوي من أيّ اتجاه وتدمير معظم ما يطلق من صواريخ.
ـ الثاني اعتماد قاعدة “التناسب والضرورة” في الردّ بحيث ترسى قواعد اشتباك جديدة قائمة على “معادلة الردع الفعّال” عبر عمل يؤلم “إسرائيل” في اللحظة ذاتها التي تكون منظومة الدفاع الجوي تتصدّى لطيران العدو مع الاستعداد لتطور الوضع نحو عمل تكون كلّ مكونات محور المقاومة جاهزة للمشاركة فيه الى جانب سورية ولا تكون “إسرائيل” متحكمة بمسار الأمور ومصيرها. وفي هذا المسار يمكن الاتكاء مثلاً على المُسيّرات الإيرانية وسواها التي ثبتت فعاليتها العالية.
*أستاذ جامعي ـ خبير استراتيجي