أولى

النار بالنار رسائل للوجدان بين دمشق وبيروت

‭}‬ طارق الأحمد
كثيرون هم الذين دأبوا على تشويه الوجدان، وقليلون هم الذين نجحوا في إصلاحه…
المسافة الواصلة طبيعياً بين المدينتين الحاضرتين في تاريخ سورية لا تتجاوز تسعين كيلومتراً كخط نظر…
وهما أكبر عاصمتين قريبتين في المنطقة كلها، ورغم كلّ ذلك فلم تبقَ مؤامرة على الوجدان قبل السياسة إلا وجُربّت فيها من أجل منع التواصل الفعلي بينهما نظراً لما للطاقات الكامنة الهائلة التي يمكن أن تتفعّل في حال عاد التواصل حقيقياً وكما ينبغي، أيّ حركة مكوكية وخلية نحل تسير فيها آلاف السيارات يومياً على اوتوستراد عريض بلا توقف…
كلّ ذلك إذا كتبته يظنّ سامعوك أنك تردّد فقط شعارات حزبية تؤمن بها، ولكن وبقدر ما يتوافق جلّ من يسمعك على أنّ هذا إنْ حصل فسيحقق معجزة لحياة كلّ الناس في المنطقة والبلاد، لكن كماً لا يُستهان به من العداء والتجاهل، سيتكفل باستحضار كلّ أمراض الماضي ليخيف الكتلة البشرية الأكبر، ويمنعها من إدراك أنّ العلاج لكلّ أزمات المنطقة يبدأ بإزالة هذه الحدود ولو تدريجاً كما هو بين دول الاتحاد الأوروبي.
معالجة الوجدان:
نعم يجب أن نعترف بأنّ معركة السياسة وحدها لا تكفي لإقناع الناس المتمترسة سلفاً في خنادق الماضي، وبالتالي يجب البحث في كلّ الطرق الأخرى التي تفتش عن الأمراض الاجتماعية وتعالجها، وحقيقة وقبل أن نطيل تكرار الحديث عن المؤامرة وتحكم الدول الاستعمارية بنا، فالأولى أن نحاول الوصول إلى شعبنا بطرق تلامس فكره ووجدانه وتظهر له مصالحه. وهنا يأتي الفن الراقي كأحدى أهمّ الأدوات الفذة لتحقيق هذا الهدف.
مسلسل النار بالنار:
عمل دراميّ غير مسبوق لأسباب كثيرة، أنا أحببت أن أسمّيه «قصة حارتين» فالمخرج محمد عبد العزيز استطاع لأول مرة دمج شخوص حارة شامية حقيقية غير مزيفة ولا مصطنعة أو مصنعة بشخوص حارة بيروتية أيضاً غير مصنّعة على قياس شركات الإنتاج والصور النمطية المفبركة على طريقة المسلسلات التركية لعرض الأزياء على مدى نص سخيف بمئة حلقة لتخدير المشاهدين…
هنا كنا أمام أشخاص حقيقيين، قد لا نعرفهم كلهم، لكنهم أبدعوا في تصوير أكبر كمّ من الألم الذي نمرّ عليه وتوحّش في نفوسنا، وتعوّدنا عليه وكأننا خلقنا لنتكيّف مع آلامنا وتجاهل الحياة لنا…
المبدعة كاريس بشار نبشت البنت الشامية حتى بمشيتها المثقلة بصلف العادات والقهر والفقر، فتقوّست قدماها واستطاعت استحضار نضال نزار قباني من أجل تحرير المرأة بشعره، لكن على طريقتها هي، ثم دمجت إرثها الشامي كله صدماً مع الثقافة الفرنكوفونية التي نهل منها المبدع جورج خباز، لينتج عن كلّ ذلك الدم والألم استكشاف الحقيقة الحقيقية وهي أنّ هذا المجتمع هو في الأصل واحد رغم تنوّعه، وما هذا التنافر إلا موروث مصطنع أراد تفكيكه وتمزيقه.
تصير الحروب وتؤخذ القرارات وتغلق الحدود ويقهر الناس، وفي الصورة آلام نعلم عنها، لكن من يصوّرها على حقيقتها؟
شبكات تهريب المحروقات وتزوير الوثائق وتهريب الناس عبر البحار وتقطيع أجساد البشر واستغلال فقرهم، وأحلام ضائعة…
نعم في الدراما تستطيع إيصال ما تجهد لعقود من السنين لإيصاله، اذا كانت الأعمال هادفة وراقية ومبدعة، واعتقد أنّ فريق هذا العمل قد استطاع اختراق الوجدان وتنظيفه مما دخل عليه من أفكار أرادت تصوير الناس في المجتمع السوري اللبناني على غير ما هو عليه، كما استطاع تصوير قدر كبير من منعكسات الحرب الأخيرة والتهجير واللجوء على المجتمع والناس، دون أن يدخل في الخطاب السياسي المباشر.
من ناحيتي أشكر من قام بهذا الجهد الكبير لأنه يساند بحقّ كلّ جهود المناضلين الذين دفعوا الدماء والجهد من أجل الحفاظ على وحدة المجتمع، وإنّ أهمّ معاركنا هي معركة الوعي.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى