الكاتبة والباحثة العراقية سارة السهيل لـ “البناء”: العرب لفظوا تراثهم الحضاري والفكري ولهثوا وراء منتج الغرب وذابوا فيه منذ الطفولة وأنا مأخوذة بالكلمة والرسم والقصّة والشعر والتحليق بأجنحة الفراشات تسبح بي الكلمات في بحارٍ من المعاني
علي بدر الدين
اللقاء مع الأديبة والكاتبة والباحثة العراقية سارة طالب السهيل، ليس تقليدياً أو “كلاسيكياً” أو “ع الماشي” لأنها هي من تفرض إيقاع اللقاء ومجريات الحوار، ليس فقط لشخصيتها المُحبّبَة وحضورها الجمالي، بل لأنها أديبة وكاتبة ومثقفة وباحثة وإعلامية وناشطة اجتماعية ورائدة في دفاعها المستميت عن حقوق المرأة والطفل والمسنّ والمسحوق أينما كان على مساحة الوطن العربي.
إبداعها النوعي والمميّز جداً خاصة في الكتابة عن أدب الأطفال جعل منها أيقونة ثقافية إبداعية تُرجمت بمنحها مناصب وأوسمة ودروعاً وشهادات تقدير وتكريم على مستوى المنظمات الدولية التي تعنى بالطفولة وحقوقها، وباختيارها سفيرة وممثلة لها في غير محفل، وتمّ تكريمها وتتويجها في غير دولة عربية (العراق ومصر والأردن) من قبل منتديات ثقافية وأندية كثيرة ووازنة.
لن نزيد الكلام عن ما سطّرته من كتابات ثقافية وتربوية وأخلاقية وتوعوية وغرسته من قِيَمٍ لغاية الآن، لأنّ شلالها الإبداعي ما زال على زخمه وتدفقه حتى يروي بلاد العرب الظمأى إلى الثقافة والوعي والاستفاقة من جديد علّها تستعيد مناراتها وأمجادها التي ضيّعتها بنفسها لانغماسها بصراعات عبثية كان الوصول الى السلطة العنوان والغاية.
كان معها هذا اللقاء المتشعّب العناوين والمحطات…
*أنت كاتبة من فضاء خاص، ما هي مصادر موهبتك وإلى ماذا تطمحين؟
ـ أنا مؤمنة تمام الإيمان بعدل الله تعالى في تقسيم أرزاقه على جميع خلقه، فوهب كلّ منا موهبة مختلفة عن الآخر.
فالمواهب هي هبات ربانية متنوّعة من خيرات الخالق على خلقه، وهكذا وجدتني منذ الطفولة الباكرة مأخوذة بالكلمة والرسم والقصة والشعر والتحليق بأجنحة الفراشات، تسبح بي الكلمات في بحار من المعاني اللانهائية استعذب موسيقاها كأنه خرير للماء او صهيل للخيل او زقزقة لعصفور، او هدهدة لطفل رضيع.
والمدهش أنّ من تأخذه الكلمات يظلّ يسبح في بحارها أو أنهارها فلا يجد شطآناً فيظلّ يغوص حتى نهاية عمره في اصطياد لآلئها ودررها، وكما قال شاعر النيل حافظ إبراهيم على لسان اللغة العربيَّة: “أنا البحرُ في أحشائه الدرُّ كامنٌ فهل ساءَلُوا الغَوَّاصَ عن صَدَفاتي”.
أما طموحاتي فليس لها سقف يحدّها، فهي كثيرة وانْ كان في مقدّمتها كتابة المزيد من النصوص الأدبية للأطفال العرب تُشبع احتياجاتهم العصرية بل وتحلق في آفاق الخيال لتسبق عصرها وتقدّم لهم المستقبل كما في تجارب الخيال العلمي المبسَّط للأطفال، ولكن بحسّ مذاق عربي محض، وان تتحوّل لاحقاً الى عمل درامي كرتوني او مسرحي، لأنّ الحركة والموسيقى والألوان تجذب الأطفال جداً.
“الشللية والمحسوبيات”
أودّ الإشارة الى ان ما يحدُّ طموحاتي لأدب الطفل ليس سوى غياب الدعم الفني والمادي لتجربتي، لأنّ تحويل الأعمال الى مرئية ومسموعة يحتاج الى دولة ومؤسسات، او على الأقلّ إلى إنتاج من القطاع الخاص، وهذا تقريباً غير متاح في دولنا العربية، وأجد انّ “الشللية” والتبعية تفرضان نفسيهما في كلّ مؤسسة، وأنا إنسانة طليقة والحمدلله لم أتلقّ أية واسطة أو محسوبية بأيّ شكل من الأشكال في ايّ مجال من مجالات كتاباتي، وهذا شيء أفتخر به كثيراً، رغم انّ هذا الأمر يشكّل عائقاً لوصول كتاباتي للجمهور، والجميع يعلم أنّ من يتلقى الدعم ليس المبدع وإنما الشروط والقيود التي تفرضها “الشللية” والمحسوبيات، وأرى أيضاً انّ القضايا التي أطرحها ليست على “أجندات” المؤسّسات لأنها بالنسبة لهم أفكار بالية قديمة غير مرغوب فيها، وأنا أعني ما أقول خاصة أنّ كتاباتي تربوية أخلاقية تدعو للمحبة ونبذ العنصرية والطائفية والعنف والكراهية، وتدعو للالتزام بالمعايير الإنسانية والأخلاقية التي تربّى عليها أجدادنا، وللأسف أصبحت بالنسبة للبعض قيَماً يتيمة وحيدة تبكي في زاوية الاهتمامات من قبل الناشرين، لأنّ الجميع يبحث عن “الترند” وعن ما يشدّ الانتباه بعيداً عن الالتزام بالمعايير الذوقية والفنية والأخلاقية والتربوية، وأنا لا أُقدّم تنازلات ولو بمقدار “قيد أنملة” في هذا الأمر.
سفيرة للنوايا الحسنة
*لماذا تمّ اختيارك سفيرة للنوايا الحسنة؟ وماذا يمكنك تقديمه وأنت في هذا الموقع؟
ـ اختياري سفيرة للنوايا الحسنة من جانب منظمة البعثة الدبلوماسية التابعة للمجلس الدولى لحقوق الإنسان والتحكيم والدراسات السياسية والاستراتيجية هو شرف كبير لي ووسام أهديه لوطني العظيم العراق ووطني الأكبر الوطن العربي، وهو يثبت حقيقة انّ الانسان عندما يعشق ما يفعله ويصدُق فيه فإن ثماره تكون عظيمة ومشهودة ومحلّ تقدير.
فالعمل التطوّعي للأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة، ومناهضة العنف بحقّ المرأة والطفل والمسنّين وجدتني مدفوعة دفعاً داخلياً لتبنّيه والعمل لنصرته بكلّ جدّ واجتهاد وكانت ثمرته هذا الاختيار عام 2013، وأتمنى ان أكون قد وفيت به على وجه يرضي الله ورسوله والمستضعفين أصحاب الحقوق علينا.
المهمّ ان ننجح بنشر الوعي لتحصيل حقوق هذه الفئات الضعيفة ومناصرتها والدفاع عنها إعلامياً لأنه بوابة رئيسية لدفع الحكومات ومؤسّسات المجتمع المدني لتبنّي مشكلاتهم والعمل على حلها وتوفير سبل الحياة الآمنة لكلّ هؤلاء.
*ماذا تعني لك الكتابة عن أدب الأطفال وهل تتوقعين خرقاً في جدار معاناة الاطفال لإخراجهم من العزلة و”ثقافة” الجهل؟
ـ الكتابة للأطفال وعنهم هي كتابة شخصية لي، لأنني أُخاطب بنصوصي لهم الطفلة الموجودة في داخلي، وأعيش عالم الطفولة من أوسع أبوابه خلال الكتابة فأتجرّد من التعقيد النفسي ومن المفردات اليومية التي نستخدمها الى فضاء من المفردات المبسطة والمدهشة والمثيرة، ومعايشة الفكرة “الطازجة” وفضاءات الخيال والماورائيات بسحرها وأساطيرها.
ولا شك انّ القصص المكتوبة للأطفال تُسهم بشكل كبير جداً في تعويده أولاً على القراءة منذ الصغر، وتنمية ملكاته اللغوية ومهاراته الحركية والإدراكية، والتذوّق المبكر للكلمات وتأثيرها على عقله ووجدانه، ومن ثم الارتقاء بحسه الفني والأخلاقي.
في قصص الاطفال فنون الإكتشاف ولذة البحث، وكيفية تنشيط خيالاتهم عند التعرّض لمواقف صعبة عندما يكبرون ربما يساعدهم على إيجاد الحلول للعديد من المواقف، الى جانب ضبط سلوك الطفل اجتماعياً وانفتاحه على الآخرين والتعاطف معهم وغيرها، وتغرس فيهم قِيَم المحبة والتسامح وقبول الآخر وقِيَماً جميلة مثل برّ الوالدين والعطاء والكرم والإيثار وحب الوطن والتضحية من أجل الأهل والأحباب، كما تزرع قيَماً أخلاقية خاصة في ظلّ الغزو اللاأخلاقي الذي يجتاح العالم ومن ضمنه الوطن العربي، ذلك من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وما تبثه من غثٍّ وسمين، ولكن تركز على بث ما يسرق الأطفال منا ويسرق وقتهم ومشاعرهم بل يملأ عقولهم بمعلومات غير مهمة تحلّ محلّ المهمّ فلا يبقى في عقولهم متسعاً من المساحة للتعبئة بما هو مفيد من معلومات علمية وثقافية وفنية وتربوية، كما انّ هذه الوسائل ومن يديرها يتعمّد بث السخَف والسفَه طوال الوقت، غير انّ ما يشاهده الطفل عبر “القنوات” و”الانترنت” معظمه رقص لا معنى له وتجارة رخيصة بالبشر والإناث على وجه الخصوص.
الخطر الأكبر هو تعويد عين الطفل على مشاهدة كلّ ما هو شاذ ومنبوذ، ونحن في حرب خطيرة يجب ان نتصدّى جميعاً لها، هذا النهج من التفكير الذي أعتمده ولا أحيد عنه هو السبب الأساس لعدم وصولي إلى ما أطمح إليه إنسانياً وطفولياً بالمطلق، ولكن إصراري وتعبي وجهدي وكلّ عطاء بذلته وما زلت ابذله فأنا على يقين أنه سيثمر، وانّ كل من هو مثلي مُحارَب لا بدّ له من التعاون مع بعض أصحاب “المنصات” المحترمة والقديرة والشريفة، والحمد لله ما زال هناك أشراف ولم تخلُ الدنيا بعد من أصحاب القيَم هؤلاء.
*لماذا إهمال الجانبي السياسي في كتاباتك؟
والدي (رحمه الله) كان رجلاً سياسياً من الطراز الأول وهو مناضل وزعيم قبيلة وشيخ عشيرة وممن ناضلوا لأجل وطنهم العراق وبذلوا روحهم وعمرهم انتصاراً للوطن. وهناك أفراد من أسرتي وأهلي اتجهوا للعمل السياسي، بينما اتجاهي كان للعمل الذي أحبّه وهو العمل الثقافي والانشغال بالكتابة والعلم وتبني قضية توعية المجتمع، وهي بطبيعة الحال جزء أصيل من العمل السياسي وبدونه فلا عمل سياسي وإنما حكم ديكتاتوري وفردي متسلط على شعب جاهل. اذن فالكاتب له دور في العمل السياسي بشكل مباشر أو غير مباشر.
ولعلّ وجودي بالمشهد الثقافي والإعلامي كسلطة سادسة بالمجتمع فلها التأثير على ساسة وقادة المجتمع فهي ترفع أقواماً وتحطّ بآخرين، وقد تكون الكتابة مع السلطة او ضدها. كما انني أتناول بمقالاتي العديد من القضايا الوطنية المختصة بوحدة الصف العراقي او العربي، وقد ألمّح الى بعض القضايا السياسية العراقية، دون خوض غمار العمل السياسي نفسه او الكتابة السياسية المتخصّصة لأسباب عديدة، منها إيماني بأهمية حرب القوى الناعمة وتأثيرها على قهر جبروت اي طاغوت من فساد وعنف وطائفية وغيره.
خذ مثلاً على ذلك… قد يقوم مواطن ببناء حديقة مجانية للأطفال من شقى عمره وكفاحه، ويقوم المحافظ بافتتاحها فيُنسَب الجهد للمحافظ، أما المواطن الذي بذل الوقت والجهد والمال في بناء الحديقة، فقد ذهب جهده مع الريح. وهكذا فإنّ السياسي بحكم المنصب والسلطة يسرق الأضواء والمكانة الاجتماعية من أصحابها الحقيقيين، وهذا يخالف ما تربّينا عليه من قِيَمٍ أخلاقية وتراثية ومنها على سبيل المثال “أعطِ الخبز لخبازه حتى لو أكل نصفه”، كلّ حسب تخصصه وموهبته، وقيم الصدق هذه هي التي صنعت في الماضي حضارتنا العربية والإسلامية.
وعندما تدخل لأيّ مهرجان ثقافي تجد الوزراء والسياسيين هم الذين يقومون بافتتاح مراسمه، بينما نجد الكتّاب والمثقفين والفنانين “قاعدين” على دكة الاحتياط في ملعب الحياة الثقافية يعني في الصف الثاني أو الثالث أو العاشر…
يمكن أن تكون مصر هي الدولة العربية الوحيدة التي تعطي للكاتب مكانته وقيمته.
للعودة إلى تراثنا الحضاري
*ماذا يحتاج العرب للنهوض بواقعهم الثقافي والسياسي والاجتماعي؟
ـ العرب يملكون كلّ مقومات النهوض بواقعهم الثقافي والسياسي والاجتماعي استناداً الى ميراث عريق أيهموا من خلاله في بناء حضارات ما قبل التاريخ كما في حضارتَي بابل وآشور، وتابعوا مسيرتهم الحضارية في حقبة الحضارة الإسلامية حين كانت بغداد عاصمة الخلافة وفيها قامت ونشطت حركة الترجمة والتلاقح الثقافي بين الشرق والغرب.
والحضارة العربية توسعت في فنون الحياة فتطوّرت الزراعات وأقيمت الصناعات وتطور الفن المعماري مصبوغاً بالصبغة العربية الإسلامية، كما تطورت أنماط الحكم من فترة لأخرى استجابة لتداعيات العصر، وانعكس ذلك في حياة الناس الاجتماعية التي ازدانت بالفكر الحضاري والسلوك المتحضر والحياة الآمنة المستقرة.
نعم نجح العرب في صنع خصوصيتهم الحضارية فملأوا الدنيا فكراً وإبداعاً في شتى صنوف ومجالات الأدب والإبداع الشعري والملحمي والقصصي كقصص “كليلة ودمنة” و”ألف ليلة وليلة” ونوادر جحا وغيرها.
عرف العرب الفكر الموسوعي فنجد العالم منهم عالماً بالدين ومتبحّراً في علوم الأدب والفلك والرياضيات، وكان مبعث هذا التفوّق الحضاري هو الصدق مع الله والنفس والمجتمع بجانب توافر مناخ آمن للإبداع والفكر والدراسة النوعية والمتخصصة الي الدراسة الكلية مجريات الحياة.
أما عالمنا العربي اليوم فقد لفظ تراثه الحضاري والفكري ولهث وراء منتج الغرب الحضاري وذاب فيه، فلبس لباسهم وفضّل طعامهم وشرب فكرهم دونما رؤية او فحص وانتقاء لما يناسب طبيعته الحضارية وخصوصيته الفكرية.
انساق عالمنا العربي وراء المتغيّرات الحديثة القائمة على ثقافة الاستهلاك دون الإنتاج ففضّل استيراد الطعام والكساء على الإنتاج المحلي استسهالاً للأمر، وتحقيقاً لمصالح أصحاب المصالح الدنيوية الضيقة ممن يقومون بالاستيراد، ورفضاً لما كان عليه الأجداد من الاجتهاد وبناء الأوطان باستثمار جيد لمواردها وتطوير هذه الموراد.
في ظني ان لا ملجأ لنا كعرب للنهوض الحضاري من كبوتنا الراهنة سوى استحضار تراثنا الحضاري والإفادة من قواعده الأصيلة والبناء عليها بما يتوافق مع تحديات عصرنا العلمية والسياسية والتوقف الفوري عن حالة الترغيب التي تعيشها مجتمعاتنا اليوم.
هذا بالطبع لا يعني أننا في ذيل قائمة الشعوب، فنحن نأخذ بمعطيات العصر الحديث، ولكن أخذاً مشوّهاً وممسوخاً لأنه ليس نابعاً من قدراتنا الذاتية.
نحن بحاجة الى استعادة قدراتنا الخاصة بقيم مجتمعنا وإحيائها إحياءً لحضارتنا واختياراً منها لما يناسب في عالم الألفية الثالثة للميلاد، فلا بيت يُبنى بدون وضع القواعد الأساسية قبل ان نصعد بعمدانه.
العالم العربي يموج بالعديد من الموهوبين في شتى المجالات الإبداعية، والكتابة العربية بخير لكنها ليس فيها بصمة التفرّد التي كانت على عهد السابقين.