إنها الحرب بحسابات أميركية «إسرائيلية» جديدة: فما هي حسابات المقاومة في غزة ومحور القدس؟
ناصر قنديل
منذ تشكيل حكومته الجديدة سعى بنيامين نتنياهو الى محاكاة السقوف العالية لحلفائه في الحكومة، وخصوصاً ايتمار بن غفير وبتسلئيل سمو ترتيتش، واختار وزيراً للدفاع من النخبة الملتزمة بفكرة استعادة قدرة الردع هو يوآف غالنت الذي يحظى بثقة قادة الجيش والاستخبارات. وكان رهان نتنياهو مزدوجاً على ذلك، فمن جهة يضمن تمرير الانقلاب القضائي الذي يحميه من الملاحقة، ومن جهة موازية يحقق ما يضمن إقصاء معارضيه بتسجيل انتصارات عجزوا عنها في حكومة يئير لبيد وبني غانتس، بعد فشل مشابه برئاسة شريكهما نفتالي بينيت، لكن ما جرى منذ ولادة الحكومة تكفل بوضع نتنياهو وحكومته أمام تحديات خطيرة، فمن جهة شكل الانقلاب القضائي سبباً لظهور معارضة تزداد قوة في الشارع لم يتوقعها، واستدعت التحذير المتكرر من خطر نشوب حرب أهلية، وأجبرته على وقف السير بالإجراءات اللازمة للتصديق على التعديلات القانونية للنظام القضائي، ومن جهة مقابلة أظهر الفلسطينيون ثباتاً وقوة وعزماً في مواجهة الذعر الذي حاول بن غفير بثه في صفوفهم، فزادت العمليات والمواجهات، ولم تفلح ميليشيات المستوطنين ولا تدخلات الجيش والشرطة في توفير فرص السيطرة على جغرافيا الضفة الغربية، التي اعترف القادة العسكريون في جيش الاحتلال أنها في أسوأ أوضاعها. وكلما كانت أحداث الضفة تستدعي تدخلا وحشياً لجيش الاحتلال كانت المقاومة في غزة تدخل على الخط وتضع نتنياهو أمام خيار التورط في حرب، فيتدخل الأميركيون محذرين من المخاطرة بالتورط في حرب تخرج عن السيطرة، ويتحرك العرب بوساطات مدعومة أميركياً لوقف مؤقت لاطلاق النار، وحدث الشيء نفسه في برنامج بن غفير للمسجد الأقصى، وكان كافياً ان تلوح قوى محور المقاومة بفتح الجبهات ببضعة صواريخ رمزية حتى كرر نتنياهو التراجع بداعي القلق من المخاطرة، وبتشجيع اميركي على التراجع، فقرر منع المستوطنين من دخول المسجد الأقصى خلال الأيام العشرة الأخيرة من شهر رمضان، وبقيت الفقرة الثالثة من برنامج بن غير وتتصل بملف الأسرى، وبلغ التحدي فيها الذروة مع اضراب الشهيد القيادي خضر عدنان وصولاً الى استشهاده، وما فجره من مواجهة مع غزة، أنهاها نتنياهو بوقف للنار مشابه لما جرى في قضية الأقصى، كما تقول الوساطات التي انتجت وقف النار، لجهة ضمان وقف الإجراءات التي كان بن غفير ينوي تطبيقها لانتزاع كل مكتسبات الحركة الأسيرة.
كان نتنياهو قد أعلن أنه جمد قراراته بصدد التعديلات القضائية وبصدد المواجهة في القدس إلى ما بعد نهاية أعياد الفصح، سعياً لوقت مستقطع لبلورة الإجابات النهائية، وفي هذا الوقت حدثت بالتزامن مع هذا المسار الانحداري ثلاثة تطورات، فمن جهة تعرّضت حكومة نتنياهو للتصدع بعدما شعر الشركاء وفي مقدمتهم بن غفير ان كل برنامجهم ووعودهم الانتخابية تتهاوى، فهدد بن غفير بعدم التصويت إلى جانب الائتلاف الحكومي، وهي اشارة الى خطر انفراط عقد الحكومة، ونتنياهو يعرف ما ينتظره من ملاحقات قضائية بمجرد سقوط حكومته، مع استطلاعات للرأي بدأت ترجح كفة خصومه بالفوز بالأغلبية وبرئاسة الحكومة. وهذا عكس ما كان يجري على ضفة موازية من تعاظم حضور المعارضة واستقطابها لشرائح جديدة في التجمع الاستيطاني، حيث الرأسمال الإسرائيلي بدأ بالنزوح رابطاً البقاء بالتخلي عن التعديلات القضائية، واستثمرت المعارضة على تراجع نتنياهو أمام قوى المقاومة لتقول إنه مسؤول عن تهاوي قدرة الردع، بعدما اعترف اثر صواريخ الأقصى بتآكلها ولم ينفعه تحميل سلفه مسؤولية التراجع، أما التطور الثالث فهو الأسئلة التي ترد تقليدياً من المستوى العسكري والاستخباري في مثل هذه الأيام من السنة، عن التوجيهات والمقترحات ورسم الخطط لكيفية التعامل مع مسيرات الأعلام التي تطوف القدس وتتسبب بمواجهات تطورت وأدت في العام ما قبل الماضي الى معركة سيف القدس وتثبيت قواعد اجبرت حكومة لبيد العام الماضي على محاولة تفادي المواجهة بضبط المسيرات واحتواء التصعيد، ويلي مسيرة الأعلام حلول ذكرى اغتصاب فلسطين، التي يحييها المستوطنون كذكرى اعلان الاستقلال ويحييها الفلسطينيون كذكرى للنكبة الفلسطينية، ونتنياهو يدرك ان تكرار ما جرى العام قبل الماضي يؤدي الى مواجهة تنتهي بما يستعيد نهايات مواجهات هذا العام حول الأقصى وفي الضفة، وتشبه نهاية سيف القدس بمزيد من التراجعات، وكانت أمامه فرضية واحدة تتيح إمكانية التحكم بهذه التطورات، هي فرضية المبادرة الى ضربة وازنة واستباقية لقوى المقاومة تمنحه فرصة السيطرة على وضع حكومته واسترداد وحدتها، وتلجم تصاعد المعارضة، وتوفر له رصيد أرباح بوجه قوى المقاومة ما يتيح ملاقاة مناسبتي مسيرة الأعلام وذكرى اغتصاب فلسطين، في قلب المواجهة، حيث يبقى هذا الرصيد تعويضاً مناسباً مهماً كانت صيغة نهاية جولة المواجهة، حتى لو تكرّرت معها معركة سيف القدس.
كاشف نتنياهو الأميركيين الذين كان يزور مستشارهم للأمن القومي جاك سوليفان المنطقة، الذي زار تل أبيب بعد عودته من الرياض، واكتشف نتنياهو أن الأميركيين يشاركونه القناعة بأن حال التراجع العام الذي يصيب القوة الإسرائيلية يلمسونه تراجعاً عاماً في النفوذ الأميركي، وأن أحدا لم يعد يستمع لهم في المنطقة، وأن قوة «اسرائيل» يجب ان تقوم بدور عصا التأديب للمنطقة، ولو كانت كلفة ذلك تحمل مزيد من الآلام والنزيف، لأن البديل كما يراه نتنياهو تراه واشنطن، هو تسارع الانهيار دون قعر، وتمرد الجميع بلا استثناء على الطلبات الأميركية، وكانت آخر الاختبارات في قرار الجامعة العربية باستعادة سورية لمقعدها خلافاً للتحذيرات الأميركية، وصولا الى رفض تأجيل البحث بالأمر إلى ما بعد زيارة سوليفان، فإذا بالقرار يصدر قبل وصوله. ويعتقد الفريق المحيط بالرئيس الأميركي جو بايدن، أن خسارة المنطقة تبدو سريعة ما لم يتم فعل شيء عاجل وصادم لوقف التدهور فيها، فمنذ رفض السعودية وتركيا ومصر الانضمام إلى العقوبات الأميركية على روسيا، وما تلاها مع القمم الصينية في الرياض، وصولاً للاتفاق السعودي الإيراني برعاية بكين ومن وراء ظهر واشنطن، وتتويجاً بالانفتاح على سورية واستعادتها لمقعدها في الجامعة العربية الذي سيترجم بدعوة رئيسها لحضور القمة العربية في الرياض، بما يلاقي ما تفعله تركيا على مسار السعي لمصالحة سورية الى حد تقديم التنازلات التي تتصل بالاعتراف بأن الوجود التركي احتلال غير مشروع وأن الانسحاب العسكري من سورية أمر لا بد من الالتزام به، ما يجعل الاحتلال الأميركي في شرق سورية مكشوفاً، وبالتداعي يؤدي الالتزام التركي الى بدء العد التنازلي لقدرة الأميركيين على البقاء وللكانتون الكردي المرتبط بهذا الاحتلال من جهة، وبمصير الكانتون الذي يرعاه الأتراك شمال غرب سورية من جهة أخرى. وإذا كانت اميركا عاجزة عن خوض حرب فلا بد أن تقوم «اسرائيل» بما وجدت للقيام به، تحمل تبعات مواجهة مؤلمة ودموية، لرد الاعتبار لقوة اميركا وقوتها، ووقف الانحدار المتسارع في قوة الردع الاسرائيلية والنفوذ الأميركي، وبدلاً من ان تتحول المنطقة الى بيئة اقليمية دولية تملك فيها إيران وسورية وقوى المقاومة زمام المبدارة وتلقى المجاراة والتعاون من دول مثل السعودية وتركيا، يمكن لعودة القوة الاسرائيلية ان تعيد المنطقة الى ثلاثية، ايران وسورية وحلفائها من جهة، واميركا و»إسرائيل» من جهة موازية، وتوازن قوى دقيق بين المحورين، وبينهما قوة ثالثة تضم تركيا والسعودية تقيم الحساب للقوتين المحوريتين وتقيم التوازن في العلاقة معهما. وهذا يعني ضمنا إعادة رسم الخريطة الفلسطينية بين هذه المحاور الثلاثة، بحيث تمسك السعودية بالسلطة الفلسطينية وتمسك تركيا بحركة حماس، خارج محور إيران وسورية والحلفاء، وهذا مكسب كاف لـ»إسرائيل»، وتفسير لما تسربه عن تحييد حركة حماس من الاستهداف، وتحصر معركتها بحركة الجهاد الإسلامي.
هذا يعني أن المنطقة مقبلة على مواجهة مفصلية لترصيد موازين القوى وبناء معادلات الردع مجدداً، ورسم قواعد الاشتباك التي سوف تحكمها لفترة غير قصيرة، وهذا ما قرأته قوى المقاومة، وأظهرت طلائع التعامل مع الحدث بحجم قرار الدخول إلى حرب، وليس مجرد الثأر لشهداء قادة، وترجم ذلك ببيانات مدروسة، اكتفت الجهاد منها بإعلان موقف مبدئي، وترك بيان الالتزام بالردّ بوضوح لبيان غرفة العمليات المشتركة، تأكيداً لإدراك التكتيك الأميركي الإسرائيلي بالسعي لتحييد حركة حماس وإبطال مفعوله، ثم بالتريّث في بدء الرد، واستنزاف كيان الاحتلال سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ونفسياً، فلا قصف على غلاف غزة ولا عمليات رد ولا توقيت لبدء الرد، فتوقفت الحياة في كل الكيان، واقترب المستوطنون من الملاجئ تحسباً لرد لا يعلمون متى يبدأ، وتوقفت عجلة الاقتصاد، ووحدات الجيش والاستخبارات مستنفرة تترقب ولا تعلم إلى متى، والأميركي لا يستطيع أن يضغط لبدء وساطات تفادياً لتصعيد يهدد به الاسرائيلي رداً على الرد المرتقب لأن الرد المرتقب من المقاومة لم يبدأ بعد، ولا يعلم أحد متى يبدأ ومن أي جبهة، وعلى أي أهداف، والقادة الإسرائيليون ووسائل إعلامهم يضربون أخماساً بأسداس، هل ترد المقاومة من غزة أم من لبنان ام من سورية؟ وهل يستهدف الرد غلاف غزة أم تل أبيب أم يبدأ من حيفا، أم منصات الغاز والنفط ومحطات الكهرباء، أم عملية استشهادية مدوّية في العمق؟
عملياً بدأ الرد بالاستنزاف، ولا أحد يعلم ما هي الخطوة التالية وكيف وأين ومن أين، لأن قوى المقاومة معنية بملاقاة مواسم الاشتباك في مسيرة الأعلام وذكرى النكبة وبيدها زمام المبادرة، فيدخلها الكيان على قدم واحدة متحسباً للحظة الانفجار او في قلب الانفجار، وهو لا يعلم ما ينتظره، والمقاومة معنية بأن تنتهي هذه الجولة بتثبيت موازين قوى ومعادلات ردع وقواعد اشتباك حاسمة تؤكد الموازين التي يتهرّب الأميركي والإسرائيلي من التسليم بها، ويسعيان لتغييرها، فتقول للشعب الفلسطيني إن رهانه على مقاومته في مكانه، وتقول لشعوب المنطقة إن يد المقاومة هي العليا في معادلات الردع، لكنها تقول للسعودية وتركيا أيضاً أنهما لم تخطئا الحسابات بالاقتناع بأن الزمن الأميركي الإسرائيلي انتهى ومعه انتهت قدرة أصحابه على خوض الحروب والفوز بها.