نتائج فشل حروب أميركا في تعويم هيمنتها والارتدادات السلبية لسياسات الحصار الاقتصادي على دول الغرب
حسن حردان
انّ كلّ من يراقب ويتابع التطورات والأحداث الحاصلة على المستويات العربية والإقليمية والدولية، يلاحظ بشكل واضح انّ نتائج الحرب الأميركية الإرهابية التي شنّت في أكثر من ساحة، واستهدفت الدول المناهضة لهيمنتها، والدول والقوى المقاومة للاحتلال والاستعمار، بدأت تظهر، ليس فقط حجم الخيبات وفشل الأحلام الأميركية في تعويم هيمنة الولايات المتحدة، والإخفاق في إضعاف قوة حلف المقاومة في المنطقة، بل وانتقال الأزمات، التي فجرتها وأدّت إلى فوضى عالمية، إلى داخل أميركا والدول الحليفة لها، فيما راحت دول صديقة لواشنطن تنهج سياسات تحمي مصالحها وتجنّبها دفع المزيد من أثمان فشل الحروب الأميركية، والصراعات التي أشعلتها واشنطن..
أولاً، الحرب الإرهابية التي استهدفت سورية دولة وشعباً وجيشاً، فشلت في تحقيق أهدافها في إسقاط الدولة الوطنية السورية، وبالتالي لم تتمكن من الإطاحة بالرئيس بشار الأسد، أو إخضاعه للهيمنة الأميركية، ولا دفعه إلى التخلي عن تحالفه الاستراتيجي مع إيران، الثورة، ولا التخلي عن مواصلة احتضان ودعم المقاومة ضدّ الاحتلال الصهيوني.. وها هو الفشل الأميركي، بدأ يتجلى بأبهى صوره، من خلال حدثين هامين:
الحدث الأول، زيارة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي إلى دمشق والاتفاقيات المتنوّعة التي وُقعت بين الدولتين السورية والإيرانية، وأبرزها تدشين مشاركة إيران بفعالية في إعادة إعمار سورية، وتعزيز وتطوير التعاون الاقتصادي والعسكري بين البلدين بما يحصّن سورية في مواجهة الاعتداءات الصهيونية، ويقوّي جبهة المقاومة ضدّ الاحتلال.. ما يعني إحداث نقلة نوعية في التحالف الاستراتيجي بين سورية وإيران، والاحتفال بانتصار هذا التحالف بعد 12 عاماً على الحرب الإرهابية التي فشلت في النيل منه أو إضعافه…
الحدث الثاني، قرار الجامعة العربية المواقفة بالإجماع على عودة الدولة السورية برئاسة الرئيس بشار الأسد، إلى مقعدها في الجامعة وجميع مؤسّساتها، بعد أكثر من عقد على قرار الجامعة، من دون إجماع أعضائها، تعليق عضوية الدولة السورية في الجامعة، في سياق خطة أميركية لمحاصرة وعزل النظام الوطني المقاوم بقيادة الرئيس الأسد، والعمل على إسقاط الدولة السورية عبر دعم الجماعات الإرهابية، والحصار الاقتصادي.. على انّ هذا القرار العربي بعودة سورية إلى الجامعة يأتي اليوم ليشكل شاهداً على اعتراف الحكومات العربية بفشلها في تحقيق الهدف من وراء حرمان سورية من مقعدها في الجامعة، وإقراراً بانتصار الرئيس الأسد.. وهو ما اضطر واشنطن إلى التسليم به وبلغة عبّرت عن امتعاضها، وتفهّمها لقرار شركاء أميركا..
ثانياً، التوجه السعودي الجديد بانتهاج سياسات تتعارض مع التوجهات الأميركية، وتنطلق من المصالح السعودية، لأول مرة منذ توقيع الاتفاق الشهير بين السعودية والولايات المتحدة عام 1945، والذي دشن العلاقات الاستراتيجية بين البلدين تحت عنوان الأمن مقابل النفط، وتجلى هذا التوجه السعودي في ثلاث محطات هامة:
المحطة الأولى، التحالف مع روسيا في إطار أوبك بلاس، وبالتالي الاتفاق بينهما على خفض الإنتاج للحفاظ على أسعار مرتفعة لبرميل النفط، قد تجلى ذلك في قرارين لأوبك بلاس، مما عكس إصراراً سعودياً على السير بهذا التوجه رغم الطلبات الأميركية المتكرّرة من الرياض لعدم خفض إنتاج النفط للاسهام في خفض أسعاره…
المحطة الثانية، توصُّل الرياض الى اتفاق مع إيران على عودة العلاقات بينهما، برعاية الصين، مما شكل ضربة موجعة للسياسة الأميركية، التي تركز على إبقاء الحصار على إيران، ومواجهة تنامي القوة الاقتصادية للصين، فالاتفاق أدّى الى مزيد من تهاوي جدار الحصار الأميركي المفروض على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتدشين دخول الصين إلى المنطقة بما يعزز نفوذها الاقتصادي بنفوذ سياسي، الأمر الذي اعتبر بنظر جميع المراقبين والمحللين في العالم، وفي المقدمة الأميركيون، علامة على ضعف وتراجع النفوذ الأميركي في المنطقة، ولم تنجح محاولات واشنطن إعاقة تطبيق الاتفاق..
المحطة الثالثة، قرار السعودية بالانفتاح على سورية وإعادة العلاقات الدبلوماسية معها اثر تبادل زيارات وزيري خارجية البلدين، وثم قيادة الرياض الجهود العربية للانفتاح على سورية، وتأمين الموافقة على عودتها إلى مقعدها في الجامعة العربية..
ومن الواضح أنّ هذا التوجه السعودي الجديد، والمتعارض مع التوجهات الأميركية، يعود إلى ثلاثة عوامل:
العامل الاول، حاجة السعودية الملحة لوقف حرب اليمن، المكلفة جداً والتي استنزفت القدرات السعودية، وبات استمرارها عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد السعودي، في حين لا يوجد في الأفق ما يشير إلى أنّ استمرار الحرب سيؤدّي إلى تحقيق الأهداف التي سعت إليها كلّ من واشنطن والرياض.. وعليه فإنّ الجهة الوحيدة القادرة على لعب دور يساعد الرياض على وقف الحرب وإيجاد مخرج يحفظ ماء وجهها، هو إيران، وهذا ما استدعى فتح الحوار معها، وصولاً إلى الاتفاق على تطبيع العلاقات بين البلدين..
العامل الثاني، مشروع 20/30 الذي يراهن عليه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان للنهوض باقتصاد المملكة وتنويع مصادر دخله، وهذا المشروع الطموح، يتطلب تشجيع رؤوس الأموال الخارجية على الاستثمار في المملكة، وهو أمر غير ممكن تحقيقه من دون توفير مناخات الأمن والاستقرار في المنطقة، ما استدعى وضع حدّ للتوتر مع إيران، وتطبيع العلاقات معها، ومن ثم الانفتاح على سورية..
العامل الثالث، تعزيز العلاقات السعودية مع الصين، لأنّ الأخيرة باتت من أكبر الدول المستوردة للنفط السعودي، والمستثمرة في السعودية، حيث تستورد الصين يومياً مليون برميل من السعودية، في وقت لم تعد فيه أميركا تستورد النفط من السعودية، فيما الشركات الصينية تقوم بتنفيذ العديد من المشاريع الاقتصادية في السعودية، والعكس، حيث باتت تربط بين الصين والسعودية علاقات قوية، فخلال السنوات الخمس الماضية كانت الصين الشريك التجاري الأول للسعودية، والوجهة الأولى لصادرات السعودية ووارداتها الخارجية، حيث نما حجم التجارة بين البلدين 39بالمئة على اساس سنوي في 2021 وبلغ نحو 309 مليارات ريال، في المقابل بلغت قيمة الاستثمارات الصينية في السعودية 29 مليار ريال بنهاية 2021، كما حصلت السعودية على نحو 40 مليار دولار من الاستثمارات الصينية إلى الدول العربية بين 2005 و2020 أيّ نحو 20 بالمئة من إجمالي هذه الاستثمارات التي قاربت 197 مليار دولار…
ويعزز هذه العلاقات الاقتصادية السعودية الصينية، طلبات انضمام السعودية لمجموعة بريكس، ومنظمة شنغهاي، انطلاقاً من إدراك السعودية لأهمية ودور هاتين المنظمتين في الاقتصاد العالمي، في ضوء انتقال مركز الثقل في الاقتصاد العالمي من الغرب الى الشرق، وارتفاع معدلات النمو في دول “بريكس” و”شنغهاي”، بما يفوق معدلات الإنتاج من النتاج العالمي لدول الغرب…
ثالثاً، تفجر الأزمات الاقتصادية والمالية في الولايات المتحدة والدول الغربية، وتراجع فرص الاستثمار فيها، وتراجع مكانة الدولار الأميركي كعملة مهيمنة، مما عكس فشل حروب الحصار الاقتصادية التي شنتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين لإضعاف اقتصاد روسيا وغيرها من الدول الرافضة للهيمنة الغربية.. ففي مقابل مسلسل إفلاس البنوك المستمر في الولايات المتحدة وتراجع قيمة الدولار، يسجل تحسّن في أداء الاقتصاد الروسي عكسه ارتفاع قيمة الروبل إزاء الدولار… بينما الاقتصاد الصيني عاد إلى تسجيل معدلات نمو مرتفعة بعد فترة من التراجع بسبب انتشار وباء كورونا..
رابعاً، أدّى اندلاع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في الدول الغربية على خلفية الإنفاق الهائل على الحرب ضدّ روسيا في أوكرانيا، وارتداد سياسة العقوبات الاقتصادية سلباً على اقتصادات الدول الغربية، ادّى إلى التسبّب بحصول بداية شرخ في العلاقات الأوروبية الأميركية، عبّر عنه موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في رفضه التراصف إلى جانب أميركا في صراعها مع الصين.. ولهذا كلما تفاقمت الأزمات في الدول الغربية، وتبيّن انسداد الأفق أمام رهاناتها على هزيمة روسيا في أوكرانيا، كلما أدّى ذلك إلى تعزيز الاتجاه الأوروبي الداعي إلى رفض التبعية للسياسات الأميركية والتوقف عن الاستمرار في السير وراءها على حساب مصالح الدول الأوروبية..
خامساً، تقدّم مجموعة دول بريكس من حيث المساهمة في الاقتصاد العالمي، على مجموعة الدول الصناعية السبع التي تعتبر الأكثر تقدماً في العالم، حيث بلغت مساهمة دول بريكس 31,5 بالمئة مقابل 30,7 بالمئة لمجموعة السبع.. وإذا ما اخذنا بالاعتبار ايضاً الدول المنضوية في إطار منظمة شنغهاي، فهذا دليل واضح على انّ المعطيات والوقائع الاقتصادية تؤكد عملياً تبدّل موازين القوى الاقتصادية في العالم، وانتهاء مرحلة الهيمنة الاقتصادية الغربية، والتي تعني أيضاً قرب إسدال الستار على مرحلة هيمنة القطب الأوحد، وإعلان ولادة عالم متعدد الاقطاب..
انطلاقاً مما تقدّم يمكن القول انّ أميركا فشلت في تعويم هيمنتها الأحادية، وانّ الاتجاه العالمي الداعي إلى عالم يقوم على التعددية وتبادل المنافع واحترام سيادة واستقلال الدول هو الذي يتقدّم وينتصر، وانّ أميركا مهما فعلت لن تستطيع إعاقة هذا الاتجاه، وإذا كانت تريد أن تحدّ من خسائرها، وتجنب المزيد من الارتدادات السلبية على اقتصادها ودورها في العالم، فما عليها سوى التوقف عن مواصلة الحروب، والتخلي عن أحلام تعويم هيمنتها الأحادية، والقبول بولادة نظام عالمي تعدّدي يعكس موازين القوى العالمية الجديدة…