أولى

السياسة الخارجيّة الرّوسيّة والتحدي العالمي الجديد …

‭}‬ د. أحمد لقمان الزين
في ذكرى النّصر على النّازيّة، قالها الرّئيس الرّوسي فلاديمير بوتين صريحة واضحة: حربُنا مع الغرب، الغرب يريد تدمير روسيا، الحضارة من جديد عند نقطة تحوّل…
واقع الحال أنّ هذا الكلام يعكس سياسة خارجيّة روسيّة لم تعد فيها روسيا جزءاً من المعسكر الغربي الّذي حاربت إلى جانبه إبّان الحرب العالميّة الثّانية، لا بل هي في حالة عداء مع هذا الغرب الّذي يريد تدميرها وتقسيمها، وفوق هذا وذاك فإنّ الصّراع معه هو في جزء منه حضاري وعلى نتائجه سيتوقّف مستقبل العالم أجمع، كما قال الرّئيس بوتين.
انطلاقاً من ذلك كلّه تتبدّى الملامح الجديدة للسياسة الخارجيّة الرّوسيّة، والتي يمكن أن نستشفّها من خلال “مفهوم السياسة الخارجيّة لروسيا الاتّحاديّة” الّذي صادق عليه الرّئيس الروسي في الواحد والثّلاثين من آذار المنصرم.
وللحقيقة فإنّ هذا المفهوم يُشكّل وثيقة تخطيط استراتيجي، ويمثّل وجهات النّظر حيال المصالح الوطنيّة لروسيا الاتّحاديّة في مجال السّياسة الخارجيّة، والمبادئ الأساسيّة، والأهداف الاستراتيجيّة، والمهام الرّئيسيّة، والاتّجاهات ذات الأولويّة للسياسة الخارجيّة لروسيا الاتّحاديّة.
فما هو الخطّ السياسي الّذي يحكم سياسة روسيا الخارجيّة؟ وما هي المبادئ الأساسيّة التي تقوم عليها هذه السّياسة؟
بداية فإنّ روسيا الاتّحاديّة تنظر إلى ذاتها القوميّة بعين الثّقة والتّقدير، فهي تمتلك تاريخاً من الاستقلال يزيد على ألف سنة، وتراثاً ثقافيّاً عريقاً، وروابط متينة مع الثّقافة الأوروبيّة التّقليديّة، والثّقافات الأخرى، إنّها دولة حضاريّة أورو ـ آسيويّة.
دولة غنيّة بالموارد، وعضو دائم في مجلس الأمن الدّولي، وإحدى الدّولتين العظميين النّوويتين، ووريثة الاتّحاد السّوفياتي، كلّ ذلك وسواه يمنحها مكانة عالميّة عالية ومؤثّرة، وانطلاقاً من هذه المكانة فإنّها تؤدّي مهمّة ربّما لا يمكن لأيّة دولة أخرى أن تؤدّيها ونعني بها مهمّة الحفاظ على توازن القوى العالميّة، وبناء نظام دولي متعدّد الأقطاب.
بطبيعة الحال، وبالانطلاق من كلّ هذه المعطيات، فإنّ السياسة الخارجيّة التي تعتمدها روسيا مستقلّة وذات أوجه متعدّدة، ذات طابع سلمي منفتح يقوم على احترام مبادئ ومعايير القانون الدّولي المعترف بها عالميّاً، والسّعي نحو تعاون دولي متكافئ، وهي تبني سياساتها تجاه الدّول، والاتّحادات الأخرى آخذة بعين الاعتبار سياسة تلك الدّول والاتّحادات تجاهها، عملاً بمبدأ المعاملة بالمثل، والانطلاق من المصلحة العليا لروسيا الاتّحاديّة.
إنّ روسيا الاتّحاديّة، بالانطلاق من موقعها التاريخي والحضاري والاقتصادي، وبالاستناد إلى اصطفافاتها وعلاقاتها الدّوليّة، ترى أنّ بإمكانها أن تشكّل حجر الأساس لبناء عالم جديد، وهي ترى أنّ نموذج التّطوّر العالمي غير المتوازن قد ولّى إلى غير رجعة، لقد كفل هذا النّموذج، على مدى عقود طويلة للقوى الاستعماريّة أن تنمو اقتصاديّاً عن طريق الاستيلاء على موارد الأراضي والدّول التابعة لها في آسيا وأفريقيا ونصف الكرة الغربي، وبالتالي فإنّه لا بدّ من إعادة هيكلة الاقتصاد العالمي ونقله إلى أساس جديد، من خلال العمل على تسريع عمليات إعادة توزيع إمكانيات التنمية لمصلحة مراكز جديدة للنفوذ الاقتصادي والنفوذ الجيوسياسي.
مثل هذا الأمر لا يرضي القوى العالميّة التي اعتادت الهيمنة وامتصاص موارد الدّول الضّعيفة في آسيا وأفريقيا، وبالتّالي فإنّه سيكون صعباً عليها أن تعترف بالعالم متعدّد الأقطاب الّذي تسعى إليه روسيا وبعض القوى الصّاعدة، وهي في سبيل إعاقة تحقيق ذلك، تبذل محاولات حثيثة لإيقاف سير التاريخ الطبيعي، وسحق المخالفين لآرائها، امّا سلاحها فهو العقوبات الجائرة، وإثارة الانقلابات والنزاعات المسلحة والتهديدات…
ترى روسيا أنّ الرّدّ الطّبيعي على أزمة النّظام العالمي يتمثّل بتعزيز التعاون بين الدّول الّتي تتعرّض لضغوط خارجيّة، والتي يسلّط سيف العقوبات فوق رؤوس قياداتها وشعوبها، وأن يُصار إلى تكثيف تشكيل آليات إقليميّة، وغير إقليميّة للتكامل الاقتصادي والتفاعل في مختلف المجالات وإنشاء شراكات متعدّدة الأشكال كي تستطيع أن تحلّ مشاكلها فيما بينها، وأن تواجه وتصمد.
وفي الإطار عينه ترى روسيا الاتّحاديّة أنّ المكانة التي تعتليها كدولة ذات مكانة تؤهّلها لتكون إحدى أهمّ المراكز التنموية الرائدة في العالم الحديث، وتمتّعها بسياسة خارجيّة مستقلة، جعل الغرب ينظر إليها على أنّها تهديد لهيمنته، وانطلاقاً من هذه النّظرة الغربيّة استخدمت الولايات المتّحدة الأميركيّة وأذنابها التدابير التي اتّخذتها روسيا الاتّحادية لحماية مصالحها الحيوية في الاتّجاه الأوكراني ذريعة لشنّ حرب عليها بهدف إضعافها، وتقويض دورها الحضاري الخلاق، وقوتها وقدراتها الاقتصاديّة والتكنولوجيّة وتدمير وحدة أراضيها..
في المقابل فإنّه في مفهوم السياسة الخارجيّة الرّوسية، لا يوجد ما يشير إلى عداء روسي تجاه الغرب، فهي لا تعتبره عدوّاً، ولا تعزل نفسها عنه، ولا تعبّر عن نيات عدائية حياله، وهي في هذا الإطار تأمل بأن تدرك الدول المنتمية إلى المجتمع الغربي في المستقبل عدم جدوى سياستها القائمة على المواجهة، والهيمنة وأن تأخذ في عين الاعتبار الحقائق المعقّدة لعالم متعدّد الأقطاب، والعودة إلى التعاون البراغماتي مع روسيا مسترشدة بمبادئ المساواة في السيادة واحترام مصالح بعضها البعض. إنّ روسيا مستعدّة على هذا الأساس للحوار والتعاون.
لكنّ ذلك لا يعني أبداً أنّ روسيا لن تردّ على ممارسات الغرب عير الودّيّة، فهي ستدافع بقوّة عن حقّها في الوجود والتنمية الحرة بكلّ الوسائل الممكنة، وستركّز طاقتها الخلاقة في سياستها الخارجيّة على توسيع شبكة علاقاتها مع كلّ دول العالم من الهند إلى أفريقيا إلى الصّين، إلى إيران والسّعوديّة… إنّ الجزء الأعظم من البشريّة مهتمّ بإقامة علاقات بناءة مع روسيا وتعزيز مكانتها على الساحة الدّولية كقوة عالمية مؤثرة تقدّم مساهمة حاسمة في الحفاظ على الأمن العالمي وضمان تنمية الدّول سلمياً، وهذا يفتح أمام روسيا الاتّحاديّة فرصاً واسعة لأنشطة ناجحة على الساحة الدّوليّة.
إنّ هذه السياسة الخارجيّة المنفتحة على العالم، والمتصدّية للهيمنة في وقت واحد إنّما هي في خدمة الأهداف الوطنيّة لروسيا الاتّحاديّة، بدءاً من حماية نظامها الدّستوري وسيادتها واستقلالها ووحدة أراضيها، مروراً بحماية حقوق وحريات ومصالح مواطني روسيا المشروعة وحماية المؤسّسات الروسية من التّطاول غير القانوني من قبل الجهات الأجنبيّة، وصولاً إلى تطوير فضاء معلوماتي آمن وحماية مجتمع روسيا الاتّحادية من التّأثير الأجنبي المعلوماتي الهدّام، والمساعدة على التنمية المستدامة للاقتصاد الروسي على أساس تكنولوجي جديد، ناهيك عن تعزيز قيم روسيا الرّوحية والأخلاقية التقليدية وصيانة التاريخ الثقافي والتاريخي لشعب روسيا الاتّحاديّة متعدّد القوميات.
إنّ هذه السياسة الخارجيّة الرّوسيّة البنّاءة والمنفتحة لا يمكن لها أن تتحقّق وأن تؤتي أكلها إلاّ من خلال السّعي لتنفيذ مهام رئيسية تتجاوز روسيا لتكتسب بعداً عالميّاً شاملاً ومن هذه المهام تشكيل نظام عالمي عادل ومستقرّ، ودعم السلم والأمن الدّوليين، والاستقرار الاستراتيجي، وضمان التعايش السلمي والتنمية المضطردة للدول والشعوب، وتقديم الدّعم لحلفاء روسيا في تعزيز المصالح المشتركة وضمان أمنهم وتنميتهم المستدامة.
بناء عليه فإنّ تشكيل نظام عالمي عادل ومستقر، هو من أولويّات السياسة الخارجيّة الروسية، ولتحقيق ذلك ينبغي أن يكون نظام العلاقات الدّولية متعدّد الأقطاب، قائماً على مبادئ أساسيّة تنطلق من احترام حقوق الدّول في اختيار نماذج تطوّرها ونظامها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ونبذ الهيمنة في الشؤون الدّولية، وعدم التّدخل في الشؤون الدّاخليّة للدّول، وسيادة القانون الدّولي في تنظيم العلاقات الدّوليّة، وأن تتوقّف الدّول المهيمنة عن فرض نماذجها التنموية، وتوجّهاتها الأيديولوجيّة والقيميّة على الدّول الأخرى.
وفوق هذه وذاك فإنّه لا بدّ للأمم المتّحدة أن تستعيد دورها كآلية تنسيق مركزيّة في التوفيق بين مصالح الدّول الأعضاء في الأمم المتحدة، وأنشطتها لتحقيق أهداف ميثاق الأمم المتحدة، وبالتّالي فإنّ روسيا تدعم بشكل مستمرّ تعزيز الأسس القانونيّة للعلاقات الدّوليّة، وهي تفي بالتزاماتها القانونيّة الدّوليّة بنزاهة…
تنطلق روسيا الاتحادية من أنّ الأمن الدّولي غير قابل للتجزئة في الجوانب العالميّة، والإقليميّة، وهي تسعى إلى أن يكون متاحاً بصورة عادلة متساوية لجميع الدول على أساس مبدأ المعاملة بالمثل، وهي في سبيل تحقيق ذلك تبدي انفتاحاً على العمل المشترك مع جميع الدول المعنية، والاتحادات الدّولية لتشكيل بنية متجدّدة وأكثر استقراراً لنظام الأمن الدولي.
في ما يخصّ أسلحة الدّمار الشّامل فهي تؤدّي دورها في السياسة الخارجيّة الروسية كقوّة رادعة وبالتالي فإنّه ينبغي العمل على ضبط النّزاعات الدّوليّة والحيلولة دون تفاقم العلاقات الدّولية إلى مستوى من شأنه أن يثير نزاعات مسلحة يتمّ فيها استخدام الأسلحة النووية وأنواع أخرى من أسلحة الدمار الشامل.
ختاماً، تلك هي أهمّ معالم السياسة الخارجيّة الرّوسيّة، سياسة منفتحة، ومرنة من دون تساهل، أو تهاون بالحقوق الوطنيّة، دفاعيّة دون إهمال لعنصر المبادرة، سياسة تتيح تشبيك روسيا بدول العالم النّاهض مع مدّ اليد للغرب على الرّغم من اجتماعه ضدّها في أوكرانيا، سياسة تنطلق من روسيا نحو عالم متعدّد الأقطاب، يكون أقلّ ظلماً وأكثر عدالة… عساه ينجح.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى