المواجهة بين الأسد وواشنطن… والقمة ساحة صراع
ناصر قنديل
لم تكن المواجهة يوماً بين سورية بقيادة الرئيس بشار الأسد وبين أي من الحكومات العربية، رغم ظاهر الأمور واصطفاف هذه الحكومات على ضفة العداء لسورية، وكل القضايا التي رفعتها بعض الحكومات العربية بوجه سورية كانت مستعارة من الخطاب الأميركي، بدءاً بعنوان الديمقراطية الذي يبدو سريالياً عندما يكون من يرفعونه بوجه سورية أصحاب أنظمة لم تعرف الانتخابات يومأ، والعنوان الخلافي حول العلاقة مع إيران مفردة مستوردة من البرنامج الأميركي بالوكالة، وعنوان العلاقة بحركات المقاومة عنوان إسرائيلي بالأساس حملته واشنطن على عاتقها وجيّرته للخطاب العربي، كانت معركة سورية ورئيسها بالأساس مع الأميركي حول الخيارات السورية، فكان مصطلح الديمقراطية باباً أميركياً للسعي لتفخيخ الدولة القوية بألغام قابلة للتفجير أما بتفكيك المؤسسات سياسياً عند الحاجة أو بتفجيرها طائفياً إذا نجح مشروع استلهام الصيغة اللبنانية الطائفية، كما كان يصرّح المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا دائماً، والكباش السوري الأميركي حول مكانة إيران امتداد للصراع الأميركي مع إيران ومحاولة تضييق الخناق عليها، إضافة لصلته بالعنوان الثالث والرئيسي للصدام السوري الأميركي وهو موقف سورية من حركات المقاومة الذي كان في أول إملاءات كولن باول التي رفضها الرئيس الأسد بعد سقوط بغداد واحتلال العراق، وامتداداً إلى حرب تموز 2006 على لبنان عندما قررت واشنطن ان سحق المقاومة في لبنان، كمهمة أنيطت بكيان الاحتلال يمكن أن يعوض فشل الحرب الأميركية في العراق وينتج توازنات جديدة في المنطقة، وفق ما وصفته غونداليزا رايس بالشرق الأوسط الجديد الذي يولد من رحم هذه الحرب.
خاضت سورية الحرب مع أميركا، لكنها لم تردّ على أي من الحكومات التي انخرطت فيها، عربية وتركية وسواهما، بمثل ما ارتكب بحقها، فلا صدرت لهم الإرهاب الى عواصمهم، ولا جعلت أمنهم أهدافاً مشتركة مع حلفائها، بل على العكس أبدت حرصاً شديداً على خوض المعركة حصراً فوق الأراضي السورية، وبالحصيلة انتصرت، باعتراف القريب والبعيد، وجاء النصر مدوياً، فتكسرت الرماح الأميركية في المنطقة، وأسس ذلك للانسحاب الأميركي من أفغانستان، كما أسس لتشجيع روسيا على المجيء الى سورية وتالياً على الحسم في المواجهة التي أراد الأميركيون أوكرانيا ساحة لها منذ الانقلاب الذي دبّروه فيها، وحولت الصين صعودها الاقتصادي إلى السياسة على خلفية ما قالته الحرب السورية من أن هزيمة المشروع الأميركي أمر ممكن. وبالتتابع تراجعت القبضة الأميركية وبدأ حلفاؤها يعيدون حساباتهم، وما صنعته سورية كان أساسياً في تحرير إرادتهم، سواء تركيا أو السعودية، وهذا التحرر هو الذي أتاح التمرد على الخطوط الحمراء الأميركية بالتوجه نحو روسيا والانفتاح على إيران، والعلاقات مع الصين، وصولاً للانفتاح على سورية، لذلك يأتي حضور الرئيس الأسد للقمة العربية، ليس احتفالاً بإزالة أحد وجوه الحرب التي شنتها واشنطن عليه واستخدمت فيها المنصة العربية وحسب، بل احتفالاً بتحرير مساحة جديدة من القرار العربي من الهيمنة الأميركية ترجم بملاقاته وهو يدخل إلى القمة ومدّ السجاد الأحمر لاستقباله عنوة عن التوجيهات الأميركية. ولعل هذا الجانب من النصر يعني سورية أكثر من سواه، لأنه التمهيد لفتح الطريق نحو مقاربات عربية جديدة أكثر تحرراً من الإملاءات الأميركية.
عندما يتصافح الخصوم من القادة يحلو للبعض التعليق بطلب الرحمة للشهداء واعتبار من ماتوا الخاسر الوحيد، لكن هذا لا يصح في الحالة السورية لأن ما استشهد الشهداء من أجله هو النصر، والذي تحقق هو النصر تماماً، وحضور الرئيس الأسد للقمة هو أبرز تجليات هذا النصر، لأن الحرب تبدأ في الميدان لكنها تنتهي على طاولات السياسة، والمنتصر هو الذي يدعى الى الطاولات التي قيل إن لا مكان له حولها، والشهداء يستشهدون ليحفظوا لأوطانهم مكانة تليق بها، وهذه المعادلة إن كان لها من مثال دقيق فهو المثال السوري.
كثير من المياه جرت في هذا النهر العربي منذ قمة بيروت عام 2002، التي ترجمت آخر مشاهد التلاقي السوري السعودي، على خلفية إنجاز تحرير جنوب لبنان بقوة المقاومة وانطلاق انتفاضة الأقصى التي قالت إن القضية الفلسطينية لم تمُت وإن الشعب الفلسطيني حاضر وعلى قيد الحياة، ومنذ ذلك التاريخ انقسم العرب حول حرب العراق، ومن بعدها حرب تموز 2006 على لبنان، وصولاً الى الحرب على سورية، والانقسام الذي لحق فلسطين نصيباً بارزاً منه، بين مشروع المقاومة ومشروع التطبيع، كان انقساماً بين سورية وأميركا على المشهد الإقليمي، واليوم تنتصر سورية، وسيكون لفلسطين نصيب أكيد من هذا الانتصار، حيث لا مكان لصفقة القرن ومفرداتها، ولا للتطبيع والإبراهيمية، وحيث المقاومة نمت وازدادت قوة، وصنعت المزيد من الإنجازات، والثنائية المرتقبة بين سورية والسعودية لا تلبث أن تصير خماسية مع مصر والجزائر والعراق، محورها فلسطين، لكنها نواة مشروع تكامل عربي جديد في عالم لا يعترف إلا بالأقوياء، والقوة تصنع التكتلات الكبرى.