بين القمة العربية وفوز أردوغان المنطقة إلى أين؟
} د. ميادة ابراهيم رزوق*
بدأت الحكاية في مطلع الألفية الثالثة من القمة العربية في شرم الشيخ في 27/2/2002 إبان الاحتلال الأميركي للعراق، وكلمة الرئيس السوري بشار الأسد بشأن مخاطر تقديم التسهيلات وإعطاء الشرعية لاحتلال وتدمير العراق برؤية استراتيجية بدأها بشرح وتفنيد مجموعة من المصطلحات والعبارات الرنانة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية أو التنمية باستخدام الحرب، استخدمتها الولايات المتحدة الأميركية وكلّ الغرب الامبريالي الجماعي، كأقنعة قبل أن يكشر عن أنيابه، ويفصح عن مآربه بالسيطرة على العالم من خلال السيطرة على المنطقة العربية، ونهب ثرواتها النفطية والغازية والمعدنية، وإعادة رسم الخريطة التي تناسبهم وتناسب (إسرائيل)، ويبدأ ذلك من احتلال العراق وتدمير بنيته التحتية وصولاً وكما أتى في كلمة الرئيس بشار الأسد أنَّ كل الدول العربية ستكون مستهدفة وفي قلب هذا الخطر، وقد لا تكون دفعة واحدة، وإنما على مراحل، لتفشل تلك القمة في درء الخطر عن العراق، واحتلاله وتدميره بحجج واهية تتعلق بامتلاكه أسلحة كيميائية، ليعترف لاحقاً عدد من المسؤولين الأميركيين بزيف الادّعاء، وحقيقة وكنه سياسة الحروب الاستباقية في السيطرة على العالم، وتعزيز الهيمنة الأميركية كقطب أحادي.
تتابعت الأحداث بعد ذلك باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، والعدوان الصهيوني على جنوب لبنان في تموز/ يوليو 2006، الذي مُني بالهزيمة فيما سجلت المقاومة في لبنان نصراً مدوياً، وفشل مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي بشرت به كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، ليتدحرج بعدها ما سُمي بـ (الربيع العربي) في أواخر عام 2010 من تونس إلى ليبيا إلى مصر ويحط رحاله في سورية واليمن، وينجح الغرب الامبريالي بتعميق فرقة الصف العربي لاستكمال تطويق العرب وتجزئتهم وإضعافهم، تمهيداً لتطويق الصين وإيران وروسيا، ومنع نشوء تحالف كيانات معادية للولايات المتحدة الأميركية، والسيطرة على منابع النفط والغاز في محيط بحر قزوين، لمزاحمة النفوذ الروسي ومحاولة تفكيك التقارب الإيراني ـ الروسي وتقليص النفوذ الصيني، وتهيئة المناخ للتغلغل (الإسرائيلي) في المنطقة، وأنموذج ذلك التقارب (الأذربيجاني ـ الإسرائيلي)، لضمان امتلاك ناصية القرار الأوروبي، وبالتالي القرار الدولي وتعزيز الهيمنة على العالم.
وبالعودة إلى المنطقة العربية، فقد أدرك الرئيس بشار الأسد هذا السيناريو مبكراً مع الحلفاء والأصدقاء الذين ساندوا سورية في حربها ضدّ الإرهاب وإعادة صياغة معادلات الإقليم التي ترتكز عليها توازنات العالم الجديد (المقاومة الإسلامية في لبنان، إيران، روسيا، وحتى الصين)، لتأخذ هذه الحرب منعطفاً جديداً بعد الانتصار العسكري، بتشكيل حلف دولي ممانع للهيمنة الأميركية، التي لم يسلم من عقوباتها الاقتصادية حلفاء الولايات المتحدة الأميركية كما الأعداء وفق مصطلحاتهم، وليكون في عمق هذا الحلف الدولي حلف محور المقاومة الصاعد الذي سجل الانتصار تلو الانتصار، وليس آخرها الاتفاق السعودي ـ الإيراني برعاية صينية وفق توزيع أدوار متقن في تفكيك حلف الولايات المتحدة الأميركية و(إسرائيل)، وبأدوار سياسية وأمنية واقتصادية روسية وصينية وقد تكون إيرانية في منطقة غرب آسيا والقارة الأفريقية.
ليبدأ موسم القطاف في 19/5/2023 في القمة العربية في جدة في المملكة العربية السعودية، بحضور الرئيس بشار الأسد بعد عودة المقعد للجمهورية العربية السورية في 7 أيار / مايو، وتمظهر حقيقي ببداية التفلت السعودي من تحت العباءة الأميركية، نحو دور عربي وإقليمي بارز، وبإعلان وجوب توحيد كلمة العرب ورص الصفوف العربية، ولو كان ذلك لا يزال حلماً سوريالياً بعيد التحقق، إلا أنّ هذا الحلم هو ضمانة العرب ليكونوا قوة فاعلة في معادلات الإقليم والتوازنات الدولية.
وفي بقية تفاصيل المنطقة كانت الانتخابات التركية في 28 أيار / مايو بجولتها الثانية، وفوز الرئيس رجب طيب أردوغان بولاية رئاسية ثانية بدعم روسي إيراني خليجي (السعودية ـ الإمارات ـ قطر)، لتترافق هذه الأحداث مع التوقيع الروسي الإيراني على اتفاق خط شمال ـ جنوب الرابط بين شمال القارة الأوروبية وجنوب القارة الآسيوية مروراً بروسيا وإيران والهند وصولاً إلى الخليج العربي، مع تعزيز العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري بين الدول الواقعة على طول هذا الخط بالعملات المحلية.
ليتسارع مناخ التسويات نحو عودة العلاقات الإيرانية المصرية بوساطة عمانية، وقبلها وبعدها العلاقات التركية المصرية، والمصالحة التركية الخليجية «المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة»، دون أن يكتمل هذا القوس إلا بتطبيع العلاقات السورية ـ التركية في إطار تكامل علاقات اقتصادية وتجارية في منطقة غرب آسيا بين تركيا ودول الخليج العربي، وعودة إحياء فرعي مشروع الحزام والطريق الصيني الذين يمرّان من إيران والعراق نحو سورية حيث أحدهما يجتاز تركيا باتجاه الدول الأوروبية، والآخر يجتاز الأردن باتجاه الدول الأفريقية.
وبقراءة سريعة لخطاب أردوغان يوم السبت الماضي ضمن مراسم تنصيبه رئيساً لتركيا لولاية رئاسية جديدة، سيواجه فيها تحديات فورية وكبيرة، على وقع اقتصاد متراجع وتوترات في السياسة الخارجية مع الغرب، تحدث بأنه سيمارس دوره في الإقليم والعالم وسيقف من أجل السلام، مؤكداً أنّ «العالم سيرى تركيا جديدة قوية وحلفاء تركيا سيجدون ذلك»، ترافق ذلك خلال تشكيلته الحكومية الجديدة بتغييرات لوزارء الحقائب السيادية، وبشكل أساسي الدفاع والداخلية والخارجية، بالإضافة إلى نائب رئيس الجمهورية بما يشير إلى بوادر تعديل في نهج الدبلوماسية التركية وسياسته الخارجية بالعودة إلى نظرية أحمد داوود أوغلو «صفر مشاكل» مع الدول المجاورة للتفرغ لعملية البناء الاقتصادي، وقد يكون تعيين جودت يلماز نائباً لرئيس الجمهورية يصبّ في هذا الإطار، وهو من كان له دور بارز في المصالحة التركية الخليجية «السعودية والإماراتية»، بالإضافة إلى تعيين رئيس جهاز الاستخبارات التركية هاكان فيدان وزيرا للخارجية، وهو من كان معنياً بلقاءات الطاولة الرباعية في موسكو على مستوى أجهزة الاستخبارات ووزراء الدفاع بشأن عودة تطبيع العلاقات التركية السورية.
وعلى نحو مواز، عودة الحديث عن محادثات أميركية إيرانية بشأن الاتفاق النووي بقرب توقيع اتفاق نووي جديد، مع تسريبات عن لقاء جرى بين مسؤولين من البلدين في سلطنة عُمان قبل أيام، لوضع اللمسات الأخيرة، بعد قرار الوكالة الدولية للطاقة النووية إغلاق ملف التحقيق في آثار مزعومة لليورانيوم المخصب، في موقع كان قد تحدث عنه رئيس الوزراء (الإسرائيلي) بنيامين نتانياهو قبل سنوات، مع اجتماع مجموعة دول «بريكس» التي تضمّ روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا في 1 و 2 حزيران / يونيو على مستوى وزراء الخارجية في كيب تاون، العاصمة التشريعية لجنوب أفريقيا – تمهيداً للاجتماع على مستوى الرؤساء في آب /أغسطس المقبل ـ مع 13 دولة كمراقبين وأصدقاء وهم: السعودية والجزائر ومصر والإمارات والبحرين والسنغال وسورية والسودان وتونس وتركيا والأرجنتين وأفغانستان وبنغلاديش وبيلاروس وفنزويلا وزيمبابوي وإندونيسيا وإيران وكازاخستان والمكسيك ونيجيريا ونيكاراغوا وباكستان وتايلاند وأوروغواي.
يطلبون الانضمام لمجموعة «بريكس» التي كان هدف إنشائها هو كسر القطبية الأحادية، واليوم تعزيز تبلور عالم متعدد الأقطاب، مع التنسيق للتعاون الاقتصادي وبناء نظام مصرفي وتجاري رديف للنظام الذي يهيمن عليه الغرب، بهندسة وهيكلة جديدة للعلاقات الدولية، لإعادة التوازن للنظام العالمي.
أيّ المناخ الحالي هو مناخ المفاوضات والتسويات واطفاء الحرائق على وقع انحسار الدور الأميركي، وخسارة الكثير من النفوذ، ومحاولة تموضع جديد لواشنطن في المنطقة، بقطار تسعى لأن تقود حافلته الأولى، وبقية الحلفاء في العربات اللاحقة، في إقليم يتجه إلى حالة تشبيك مصلحي وفق استراتيجية جديدة، كانت البداية في قمة جدة السعودية لتذليل صعوبات الاستقرار، بطيّ صفحات الخلافات العربية، والبدايات الإقليمية الجديدة، أيّ أننا أمام نقطة تحوّل اقليمي، سيكون لـ سورية وإيران دور بارز في معادلاتها الإقليمية الجديدة من بعد سياستي ولي العهد السعودي محمد ين سلمان، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان سياسة تصفير الأزمات، لنشهد قريباً خروج قوات الاحتلال الأميركي من سورية بماء الوجه، مع مشهد لقاء القمة السوري التركي على مستوى الرؤساء في موسكو وفق الأجندة السورية، أما (إسرائيل) التي باتت تعاني من حيص بيص على كلّ الجبهات بما فيها المصرية والداخلية، فلها أن تستمرّ بذلك حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.
*باحثة واكاديمية سورية
[email protected]