لبنان على عتبة تحولاتٍ استراتيجية في الدور والمكانة إذا…
سومر منير صالح
من الطبيعي والبديهي أن يكون لبنان الدولة الأكثر تأثراً بالحدث السوري، بسبب تعدّد الروابط التي تجمع السّوريين واللبنانيين وتداخل الحدود بين الدولتين، بالإضافة إلى الوجود السّوري في لبنان إبان الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، وما نتج عنه من تحالفات سياسية.
كان من الطبيعي أن تنعكس آثار الأزمة السّورية على لبنان فيزداد منسوب التوتر الطائفي ويتردّى الوضع الاقتصادي، ولكن من جهة أخرى وللأسباب عينها، أصبح لبنان على أعتاب تحول استراتيجي، في الدور والمكانة. تاريخياً كان لبنان «خاصرة ضعيفة» لسورية، وغالباً ما كان يجري استخدامه منطلقاً لزعزعة استقرار سورية والضغط عليها لتغيير مواقفها تجاه القضايا العربية، وخصوصاً الفلسطينية، عبر وكلاء أوجدتهم القوى الغربية في لبنان خلال مراحل الصراع الأهليّ في لبنان. فمثلاً حين وقع الرئيس المصري الراحل أنور السادات اتفاقية فضّ الاشتباك الثانية مع العدو «الإسرائيليّ» عام 1975 والتي كان قد بدأ الإعداد لها عام 1974 عبر محادثات جنيف للسلام، كان لا بدّ من حدث يربك الدولة السّورية ويخرجها من دائرة المواجهة، ويبعدها عن ما يجري بين مصر و«إسرائيل»، فكانت السّاحة اللبنانية جاهزة لهذا الحدث، وخصوصاً أنّ التوترات الطائفية كانت على أشدّها والاصطفافات السّياسية والمذهبية موجودة، وجرى تمرير السّلاح إلى لبنان بسهولة. أما «إسرائيل» فكانت حاضرة بعملائها في الداخل اللبنانيّ، فأُوعز إلى هؤلاء بأن يوقدوا شرارة الحرب التي استمرت 15 عاماً، لتمرير اتفاق السلام بين مصر و«إسرائيل» والذي بدأ مع «اتفاقية سيناء الثانية» عام 1975، مروراً بـ«كامب دايفيد» عام 1978، وصولاً إلى معاهدة السلام المصرية ـ «الإسرائيلية» عام 1979، وقد انتهت تلك المرحلة بتوقيع «اتفاق الطائف» عام 1989، وهو نتاج تفاهم دولي ـ إقليمي سوريّ ـ سعوديّ ـ أميركي .
عام 2003، مع الغزو الأميركي للعراق، عاد لبنان إلى الواجهة مجدّداً في محاولة لاستهداف الدولة السورية، وقد بلغ الأمر أشدّه عقب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005، والذي حول لبنان إلى منطلق لمحاولات إضعاف سورية وإسقاط نظامها السياسي المقاوم، بمشيئة سعودية ـ أميركية. وفي العام 2011 اندلعت الأزمة السورية وأريد للبنان لعب الدور نفسه، بتحويله إلى منطلق للإرهاب المقبل على سورية، وهو ما ظهر في المواجهات مع العصابات الإرهابية في جرود عرسال والبقاع وطرابلس، تلك العصابات التي أفشل مخططاتها الجيشان السوري واللبناني والمقاومة اللبنانية، لكنّ جملة من المتغيرات المحلية اللبنانية والإقليمية والدولية بدأت ترسم في تلك الفترة معالم لبنان جديد، وقد أفقدت هذه المتغيرات لبنان دوره الجيوسياسي في الصراع مع وعلى سورية، فالأزمة الدائرة في سورية نقلت الصراع الأميركي ـ السوريّ إلى الداخل السوري، بعد أن كانت بيروت ساحة من ساحاته، تماماً كما حوّل التورط السعودي في اليمن هذا البلد إلى ميدان للصراع السعودي ـ الإيراني في شكل مباشر، بعد أن كان لبنان أول ميادينه.
إنّ الدور المصري المرتبك في المنطقة هو ما يشوش على القضية الفلسطينية، وقد أضحت مصر جاهزة لتكون عراباً لأيّ اتفاق «إسرائيلي» ـ فلسطيني، وكان العدوان «الإسرائيلي» الأخير على غزة خير دليل على ذلك، فطائرات العدو كانت تقصف أهل غزة بينما الجيش المصري يحاصرهم، وفي ظلّ «الخريف العربي»، بات الاستقرار اللبناني حاجة أوروبية، في مقدمة أولوياتها، تثبيت الوجود المسيحي في منطقة الشرق الأوسط.
هذه المتغيرات الإقليمية، إذا ما أضفنا إليها جملة من المعطيات الداخلية اللبنانية، وفي مقدمها تحول «حزب الله» إلى قوة ردع إقليمية وتشكيله الخطر الأكبر على «إسرائيل» عسكرياً، ودخوله الميداني إلى سورية بما يعني كونه شريكاً في النصر القادم، والدور الكبير الذي لعبه الجيش اللبناني في محاربة الإرهاب، على خلفية الحرب الدائرة في سورية والذي حوله إلى مؤسسة وطنية بإجماع اللبنانيين منوط بها حماية السلم الأهلي، ما يضعه في مواجهة أيّ تيار سياسي يحاول العبث بلبنان أيّاً يكن، جعلت لبنان أكثر استقراراً واستقلالاً.
وبالانتقال إلى المشهد الدولي، فإنّ المنطقة في شكل عام لم تعد تحتل مكان الصدارة في السياسة الأميركية، الأمر الذي سيضعف القوى اللبنانية التي تدور في الفلك الأميركي، في وقت نجد أنّ قوى المقاومة وحلفاءها باتوا أكثر ثباتاً في مواقعهم، بينما يرسم حلفاؤهم الإقليميون ملامح المنطقة، من سورية إلى إيران، مروراً بالعراق، بحيث باتت قوى 14 آذار أكثر قلقاً، لأنّ حلفاءها الإقليمين تورطوا في اليمن وفشلوا في سورية، في وقت بدأ الراعي الأميركي ترتيب أوراقه في المنطقة، وعلى رأس أولوياته أمن «إسرائيل»، وهو أمر لن يتحقق في ظلّ تعاظم قدرات «حزب الله» في لبنان، معززاً بفشل الحروب «الإسرائيلية» في إضعاف قدراته. لذلك أضحى الحلّ السياسي هو الخيار الأميركي لإنقاذ «إسرائيل» مستقبلاً، بعد انتهاء الأحداث في سورية، وسوف يتجسّد هذا الحلّ بالمفاوضات.
الثابت أمام كلّ هذه التطورات، أنّ للبنان وسورية مساراً واحداً عززه التواجد الميداني لـ«حزب الله» في سورية وحرب الحليفين على الإرهاب الخارجي. كلّ هذه المعطيات ستحول لبنان إلى دولة فاعلة في المنطقة، فالفشل السعودي المرتقب في اليمن والنصر السوري على الإرهاب سينعكسان إيجاباً على لبنان، بالإضافة إلى أنّ تمسّك أبناء البلدين بالعيش الواحد، رغم الحروب، سيحولهما إلى نموذج لدول المنطقة التي عاشت صراعات داخلية وتدخلات خارجية.
إذاً، العصر القادم، عربياً، هو عصر لبناني سيكون معه لبنان لاعباً إقليمياً فاعلاً وشريكاً للقوى الدولية، يساعده في ذلك الاكتشافات النفطية والغازية، الأمر الذي يمكنه من الإفلات النهائي من القبضة المالية السعودية، وثبات تجربته الديمقراطية التوافقية معزّزةً بالحرية الإعلامية. وإذا كان المشهد المستقبلي في لبنان وردياً وهو حقيقة الأمر، يبقى الأمر مرهوناً بإرادة اللبنانيين، فهذه الإرادة هي التي ستبني لبنان الجديد، رغم تعقيدات المشهد السياسي والأهلي اللبناني وغرق الأفرقاء اللبنانيين في التفاصيل السياسية الداخلية اليومية، فالتخلص من عبء الطائفية السياسية في الطائف والانتقال إلى النظام البرلماني الحقيقي، والتوافق على أسس وحدة الحياة، كلها عوامل ستضع لبنان على أعتاب مرحلة سياسية سترسم معها ملامح المنطقة.
إذاً، أمام قوى 14 آذار مساران: إمّا إغراق لبنان في الفتن الداخلية والمؤامرات والتي لن تنتج إلا الضعف لا الانتصار، بحكم ارتباطها بقوى إقليمية ودولية بدأ مشروعها السياسي في المنطقة بالفشل والاندثار، أو الدخول في حوار مع قوى 8 آذار، بعيداً من الهيمنة السعودية والإملاءات الأميركية، وتحقيق التوافق على شكل ودور لبنان الجديد، وهذا يتطلب شجاعة وحكمة افتقدها هذا الفريق السياسي الذي غرق بالمال الخليجي والأحلام الأميركية بالاستفراد بلبنان، ولم يحصد معهما إلا الفشل.
نحن، كسوريين، سنكون سعداء بتعافي لبنان وتحوله إلى دولة إقليمية فاعلة، فهو شريك في النصر على الإرهاب، كما أنّ قوة لبنان ومنعته ستعجلان التعافي السوري من جروح المؤامرة الدولية، وبذلك تتغير المعادلة اللبنانية التي روّج له عملاء الخارج: «قوة لبنان في ضعفه»، لتصبح قوة لبنان في قوته وفي احتضان أبنائه لجيشه ومقاومته.
باحث بدرجة دكتوراه في الدراسات السياسية