أردوغان بين الضرورات التركية والمحظورات الإنسانية…
} د. حسن أحمد حسن*
ليس جديداً على السياسة التركية بزعامة أردوغان أن تستمرّ بالجمع بين المتناقضات حيناً، وتزيد الفُرجة بين الأقوال والأفعال أحياناً أخرى، وإذا كان المنطلق في فهم السياسة يستند إلى أنها «فن الممكن» فقط، فيمكن اعتبار مهارة التذبذب المتكرّر حنكة سياسية، ونقطة قوة تحسب لأردوغان لا عليه، ولا يحتاج المتابع المهتمّ إلى كبير جهد وعناء ليتأكد أنّ التأرجح في المواقف وتبديل أماكن التموضع ليس أمراً طارئاً، ولا ميزة مكتسبة أو مستعارة أو مؤقتة، بل هي العمود الفقري للسياسة التركية منذ تعويم أردوغان على السطح. وإذا كان في ذلك ما يدعو إلى الاستغراب أو الاستهجان فهو لا يتعلق بحقيقة المواقف التركية، بل بتوسيع مدى الأرجوحة التي يستمتع بها أردوغان، إلى درجة يٌخَيَّلُ فيها للمتابع أنّ الذهاب بهذا الاتجاه أو ذاك نهائي، أو شبه نهائي على أقلّ تقدير، وإذ به يتفاجأ بعودة الأرجوحة الأردوغانية تتهادى بأمان وطمأنينة منتقلة إلى الضفة الأخرى، وبمدى مشابه لرحلته الاستجمامية بين الشرق والغرب، محتفظاً لنفسه بمبرّرات تبدو أنها كافية لإقناع الأطراف المتناقضة بمشروعيّة التشريق والتغريب، ولا ضير لدى أردوغان من ارتفاع نسبة الغضب عند الطرفين، شريطة أن يبقى غضباً مضبوط الإيقاع، وضمن المنطقة الآمنة التي تمنح أردوغان في كلّ مرة مساحة أوسع وحيزاً أبعد للمناورة والتسويف. وعندما تصل الأمور أو تقترب من المنطقة الحمراء يستمتع أردوغان بإظهار مهاراته، وإعادة الكرة ملوحاً وهو في طريق الذهاب والابتعاد بما يمتلكه من أوراق قوة، وعوامل تهديد ذاتية أضيفت بروافع متعددة إلى الكاريزما الخاصة بأردوغان كزعيم سياسي في منطقة جيواستراتيجية، وكأن لا غنى عنه لجميع القوى الفاعلة أو الساعية لأن تكون فاعلة ومؤثرة في مفاصل صنع القرار إقليمياً ودولياً. ومن المفيد هنا التوقف عند مجموعة من النقاط والأفكار التي قد تساعد على فهم ملابسات «المرجوحة» السياسية التركية، ومنها:
ـ الاشتباك الكوني لفرض النفوذ يدنو من ذروته الأعلى بين الولايات المتحدة الأميركية المستميتة للاحتفاظ بأحاديتها القطبية، وبين روسيا والصين وبقية الأطراف الطامحة لاستبدال نظام القطب الواحد بنظام متعدد الأقطاب.
ـ تركيا عضو أساسي وفاعل في حلف شمال الأطلسي، وتحتل المرتبة الثانية بعدد القوات ضمن الناتو، وهذا يفرض عليها الالتزام بمروحة واسعة من الأولويات التي لا يمكنها تجاوزها، ولا غضّ البصر عنها، فضلاً عن أن أردوغان كزعيم سياسي صنعة أميركية صرفة منذ ما قبل الخطوة الأولى له على درجات سلم الشهرة والفاعلية.
ـ الطموح التركي المزمن بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، واصطدام هذه الرغبة الجامحة بجدار عالٍ من الرفض المبرّر أوروبياً، والمضمون رسمياً بالموافقة الأميركية العلنية حيناً والسرية أحياناً أخرى.
ـ الموقع الجيوستراتيجي لتركيا وإشرافها على مضائق بحرية مهمة «الدردنيل ـ البوسفور»، فضلاً عن كونها مجالاً مفتوحاً على منطقتين مهمّتين لكلّ من روسيا وأميركا، فتركيا تطل على البحر المتوسط، وتشترك بحدود طويلة مع كلّ من العراق وسورية، وبالتالي على كامل منطقة الشرق الأوسط، وهي أيضاً بوابة واسعة للانتقال إلى بلاد القوقاز، ومنها إلى دول آسيا الوسطى بامتداد طبيعي حتى الشرق الآسيوي.
ـ الحرب الأطلسية ـ الروسية على الجغرافيا الأوكرانية ما تزال مفتوحة على المجهول، والتمايز الظاهري للدور التركي عن بقية أطرف الناتو يمنح أردوغان ميزة تفضيلية يحتفظ بها بخصوصية فردية عنوانها: القدرة على تواصل مضمون مع روسيا، وهذا مهمّ جداً، وتزداد أهميته كلما ازدادت خطورة ما تبقى من فصول الحرب الدائرة هناك، أو بتناسب طردي مع تشظي ألسنة اللهب المحتملة، وامتدادها باتجاهات قد تكون مفاجئة أو خارج الحسابات التقليدية.
ـ الاحتلال الأميركي لمناطق في الشرق والشمال الشرقي السوري لا يتناقض قط مع الاحتلال التركي لمناطق أخرى في الشمال والشمال الغربي لسورية، بل يتكامل معه، وكلّ منهما يشكل ذريعة لاستمرار الآخر، فذريعة تركيا للتعنّت وعدم سحب قواتها المحتلة لأجزاء من الجغرافيا السورية يرجع لوجود تنظيمات إرهابية تهدّد الأمن القومي التركي، وتلك التنظيمات مدعومة ومحميّة من أميركا، وبالتالي يبقى الاحتلال التركي وفق هذا المنطق الأردوغانيّ مستمراً ما بقيت العباءة الأميركية تظلل تلك الفصائل الانفصالية التي تهدّد الأمن الوطني السوري قبل أي شيء آخر، وبقاء القوات الأميركية بذريعة محاربة داعش وما تبقى من تنظيمات إرهابية مسلّحة تنتشر في مناطق تحت السيطرة التركية، وقد سبق لواشنطن أن تبجّحت باستهدافها قادة إرهابيين يقيمون في مناطق حدودية بين تركيا وسورية، وبالتالي لو تنسحب القوات الأميركية تحت أيّ عنوان فالنتيجة ستكون حشر التركي بالزاوية الضيقة لسحب قواته، فالجيش العربي السوري سينتشر في أي منطقة يتمّ تحريرها، وكذلك الأمر فيما لو تمّ انسحاب الاحتلال التركي، وهذا يعني أنّ الاحتلالين متكاملان لا متناقضين كما يتمّ ترويجه، وكلّ منهما يستند على نظيره.
ـ الدليل الآخر الذي يؤكد تكامل الدور الإجرامي للاحتلالين التركي والأميركي يظهر بوضوح في تكرار جريمة قطع مياه الشرب عن أكثر من مليون مواطن سوري من أبناء الحسكة، فضلاً عن تقليل كمية المياه السارية باتجاه سدي الفرات وتشرين، إلى درجة باتت تهدّد بخروج سدّ تشرين عن الصلاحية، وهذا اعتداء مباشر وسافر على سورية والعراق، أما ما يخصّ مياه الشرب فمرة يقوم التركي بقطع المياه، ومرة تقوم قوات قسد بتعطيل محطة الضخ، في الوقت الذي يقهقه فيه جنود قوات تحالف الشر والإجرام، ويتبادلون أنخاب الفوز باستخدام سلاح إبادة جديد ضدّ الشعب السوري، بعد أن أصبحت المياه سلاحا فتاكاً يتكرّر استخدامه بمباركة الكاوبوي المحتل.
ـ بعيداً عن الساحة السورية، فالسياسة التركية لا تتخلى عن ميزتها الأساسية بالتنكر لما تتعهّد به، والتنصل من وعودها والتزاماتها التي تقطعها، والانتقال من خندق إلى آخر، وتبديل أماكن التموضع حتى ولو شكل ذلك طعنة مباشرة لمن قدّموا لأردوغان شخصياً خدمات جليلة وفي مفاصل أساسية وحساسة ومصيرية كما هو حال روسيا التي كان لها ـ وفق ما تناقلته وسائل الإعلام ـ دور فاعل في تجاوز محاولة الانقلاب على أردوغان عام 2016، وكانت حريصة كلّ الحرص على فوزه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فكان ردّ الجميل النوعي والمميز باحتضان زيلينسكي، وعدم التحفظ على قبول انضمام أوكرانيا لحلف الناتو مستقبلاً، فضلاً عن الموافقة على قبول انضمام السويد للحلف، وفوق هذا وذاك الحنث بالعهد والتنكر لكلّ ما قطعه أردوغان شخصياً من تعهدات بإبقاء ضباط كتيبة آزوف في تركيا، لكنهم وبقدرة قادر ـ ومن دون مقدمات ولا موجبات ـ عادوا إلى أوكرانيا بخلاف كلّ ما تمّ الاتفاق عليه.
ـ تركيا أردوغان لا تستطيع سلخ جلدها الأطلسي فقاعدة أنجرليك القائمة على الأراضي التركية قادرة بمفردها على خلط كلّ الأوراق التركية دفعة واحدة وبزمن قياسي، والخلفية الإخوانية الموبوءة التي تسكن أردوغان وتسيطر على تفكيره وسلوكه ـ بغض النظر عن تعثر المشروع الإخواني في تونس ومصر ـ كفيلة بإبقاء العربة التركية مربوطة بالقاطرة الأطلسية التي يمسك بدفة قيادتها اليانكي الأميركي وحيداً دون سواه، وفي كلّ مرة يتمّ فيها توجيه طعنة غدر لروسيا أو غيرها يكون التبرير بأنّ الضرورات تبيح المحظورات، فكم هو سقف تلك المحظورات منخفض، وكم هو واسع مجال الضرورات لدى أردوغان أفندي؟!
ـ قبول أعذار أردوغان والتي هي أقبح من الذنوب لا يعني أنه فريد عصره وزمانه، ولا يدلّ على ذكاء خارق وكاريزما قيادية أسطورية، كما يحلو للبعض تصوير الحالة وخصوصية الدهاء والخبث اللذين يمتلكهما المذكور، بل قد تكون الخلفية واضحة تماماً لمن يغدر بهم أردوغان، لكن ترتيب الأولويات الاستراتيجية يتطلب التجاهل الآني لضمان نجاح الاحتواء الممنهج وتحييد خطر يمكن تلافيه ـ ولو مؤقتاً ـ بدلاً من دفعه للاصطفاف بالمطلق في الخندق المعادي.
خلاصة واستنتاج
أصحاب الأدوار الوظيفية وإن تمدّدوا واستطالوا أكثر من المعهود والمتعارف عليه يبقون ملزمين على التقيّد بحدود هامش المناورة المحدّد لهم مسبقاً، والحديث عن شق عصا الطاعة الأميركية، والتغريد المتعمّد خارج سربها لا أراه أكثر من جزء من الدور المرسوم ذاته، وما يتمّ تسويقه من أخبار ودراسات عن التوجه شرقاً من قبل هذه الدولة أو تلك والرغبة بالخروج من تحت العباءة الأميركية أراه في جُلّه هندسة فراغية تمّ اعتمادها في أقبية صنع القرار واتخاذه في غرفة العمليات المكلفة بتوزيع الأدوار وإسناد المهام. ولتقريب ما أقصده من الفهم أطرح بعض التساؤلات بصيغة الاستفهام الإنكاري، ومنها:
تركيا أردوغان التي تغازل روسيا أو إيران أو غيرهما من محطة إلى أخرى هل تستطيع البقاء على الحياد لو أن حرباً حقيقية نشبت بين روسيا وحلف الناتو؟ أو بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية الإيرانية؟ وقبل هذا وذاك ألا تدرك القيادة الروسية والإيرانية هذه الحقيقة؟ وهل تستطيع أيّ منهما بناء حساباتها في أي قرار استراتيجي من دون تحديد دقيق للأعداء والخصوم والحلفاء والأصدقاء؟ ألا أن غداً لناظره قريب…
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية