خطة التعافي المالي والاقتصادي: لا غنى عن حسان دياب
} أحمد بهجة*
يعرف أيّ متابع موضوعي للشأن العام في لبنان أنّ حكومة الرئيس الدكتور حسان دياب تعرّضت للكثير من الظلم والافتراء والتجنّي، وهي حكومة لمَن لا يذكر أو لا يريد أن يذكر، لم تعش أكثر من ستة أشهر كحكومة فعلية، إذ انها نالت الثقة من المجلس النيابي في 11 شباط 2020 واستقالت في 10 آب 2020. وبقيت تصرّف الأعمال (13 شهراً) إلى أن تمّ الإعلان عن تشكيل الحكومة الحالية برئاسة نجيب ميقاتي في 10 أيلول 2021.
والظلم لم يكن فقط على المستوى السياسي، بل فعل القدَر فعله لكي يتزامن انطلاق الحكومة في خطواتها الأولى مع وصول جائحة كورونا إلى لبنان، حيث اضطرت الحكومة بعد شهر واحد فقط إلى إعلان التعبئة العامة والإقفال التامّ في القطاعين العام والخاص وعدم السماح بالتنقل إلا بشكل محدود جداً لمن لا غنى عن استمرارهم في أعمالهم مثل الأطباء والممرّضين والصيادلة ومحطات المحروقات والأفران… وأهل الصحافة والإعلام.
وهنا يجدر التنويه بما فعلته حكومة الرئيس دياب في مواجهة جائحة كورونا، وخاصة وزير الصحة العامة الدكتور حمد حسن، حيث تمّ تفعيل المستشفيات الحكومية بشكل لافت وفي وقت قياسي، خاصة أنّ هذا القطاع كان مهمَلاً من قبل الحكومات السابقة، بينما تبيّن أنّ معظم المواطنين بحاجة ماسّة للمستشفيات الحكومية، ليس فقط في مواجهة كورونا، بل بشكل دائم لأن لا قدرة للغالبية الكبرى من اللبنانيين على تحمّل كلفة الاستشفاء الخاص، لا سيما أنّ الجهات الضامنة، وأوّلها الضمان الاجتماعي، تدهورت أوضاعها المالية ولم تعد تغطي إلا القليل القليل من كلفة الاستشفاء.
وحين تمكنت المختبرات العالمية من إيجاد اللقاحات المضادة لفيروس كورونا كانت الحكومة اللبنانية سباقة في حجز كميات منها وتوفيرها مجاناً لعموم المواطنين، وأطلقت حملات التلقيح في مختلف المناطق اللبنانية وتمّت وقاية مئات الآلاف من الإصابة بهذا الفيروس اللعين، والتخفيف من مضاعفات مَن أصيبوا بحيث تراجع إلى حدّ كبير جداً الضغط على أقسام العناية الفائقة وعلى القطاع الاستشفائي بأسره الذي عانى كثيراً ومعه القطاع التمريضي قبل توفر اللقاحات المضادة.
وقد ورد في مقال نشرته صحيفة «واشنطن بوست» في أيار 2020 أنه «يجب على الولايات المتحدة الأميركية ان تتعلم من بعض الدول الصغيرة مثل لبنان كيفية التعامل مع جائحة كورونا التي وصلت في بعض الأيام الى نسبة صفر إصابات».
ويعرف الجميع أيضاً أنّ حكومة الرئيس دياب أتت إلى السلطة بعد انهيار البلد، وهو الانهيار الذي عبّر عنه حراك 17 تشرين الأول 2019 وأدّى إلى استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري، وبات مطلب الغالبية الكبرى من المواطنين أن تأتي حكومة تكنوقراط مُنزّهة عن ما يُسمّى «الطبقة السياسية» التي شكلت الحكومات المتعاقبة طوال ثلاثة عقود، واتّبعت سياسات اقتصادية واجتماعية ومالية خاطئة أوصلت لبنان إلى ما وصل إليه ولا يزال مواطنوه إلى اليوم يعانون الأمرّين.
لذلك، يجب أن يتذكّر الجميع هذه الأمور حين يسمعون أيّ أحد يقول «إنّ حكومة حسان دياب مسؤولة عن الانهيار»، لأنّ الحقيقة هي أنّ الانهيار حصل قبل مجيئها، بل هي جاءت لوضع الخطط والسياسات الإنقاذية التي توقف التدهور في المرحلة الأولى ثم تعمل على إخراج البلد من الهوّة السحيقة التي انحدر إليها.
وهذا ما حصل بالفعل نتيجة التصميم والإصرار على فعل ما يجب فعله، وقد حققت الحكومة الإنجاز بطريقة لم يتوقعها كثيرون، إذ انها توصّلت في أقلّ من ثمانين يوماً بعد الثقة إلى إقرار خطة متكاملة للتعافي المالي والاقتصادي، وهي خطة يحتاج إقرارها في دول أخرى لا تعاني ما نعانيه إلى أشهر عديدة.
والجدير ذكره أنها المرة الأولى في تاريخ لبنان يتمّ وضع خطة عملية تتضمّن رؤية اقتصادية لمستقبل لبنان، مع الأخذ بعين الاعتبار ظروف البلد القاسية لا سيما مع تدهور قيمة العملة الوطنية وتدنّي القدرة الشرائية لدى غالبية المواطنين، فضلاً عن امتناع المصارف عن تلبية حاجات أصحاب الودائع بدءاً من شهر آب 2019، ثمّ وضع قيود مشدّدة على عمليات السحب، مما زاد من حدة الأزمة وجعل الثقة بلبنان واقتصاده ومصارفه في مهبّ الريح.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ خطة التعافي المالي والاقتصادي التي أقرّتها حكومة الرئيس دياب في 30 نيسان 2020 هي الخطة الوحيدة التي وافق عليها صندوق النقد الدولي، كما أثنى عليها البنك الدولي، علماً أنّ هذه الخطة كانت كفيلة لو تمّ تطبيقها خلال السنوات الثلاث الماضية بإعادة نحو 98% من أموال الودعين، ولكن الذين يريدون السطو على أموال الناس ما زالوا إلى اليوم يحتجزون الودائع، وليس فقط ودائع اللبنانيين، بل هناك ما يقارب الـ 11 ألف حساب مصرفي تعود ملكيتها لمتموّلين عراقيّين وليبيّين كانوا قد أودعوها في أكثر من بنك لبناني قبل سقوط النظامين العراقي ثم الليبي، وتبلغ قيمة هذه الودائع حوالى 22 مليار دولار، وكان الرئيس دياب طلب من المصرف المركزي كشفاً مفصلاً بهذه الحسابات، وكان يمكن الحصول على إذن قضائي بهذا الشأن على اعتبار أنّ أصحاب هذه الحسابات إما توفوا أو هم لم يطالبوا بأموالهم، حتى قبل الأزمة المصرفية في لبنان، خوفاً من الخضوع للمحاسبة إذا انكشف أمرهم أنهم هرّبوا أموالاً طائلة إلى خارج بلدانهم.
غير أنّ المعنيين وأولهم «الحاكم» لم يردّوا كالعادة على أسئلة الرئيس دياب، وبقيَت هذه الأموال الطائلة في جيوب المصرفيين في القطاعين الرسمي والخاص بدلاً من أن تصبح أموالاً عامة وتتمّ الاستفادة منها على الأقلّ في تخفيض حجم الخسائر على الخزينة العامة وبالتالي على مجموع اللبنانيين وليس فقط أصحاب الودائع.
ولأن لا غنى عن خطة التعافي المالي والاقتصادي التي وضعتها حكومة الرئيس دياب، لم تجد حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الحالية أفضل منها، لأنها خطة علمية وعملية مجرّدة عن أية مصالح خاصة وضيقة، بل ركزت فقط على مصلحة لبنان العليا ولم تساير قطاعاً معيناً على حساب القطاعات الأخرى كما فعل ويفعل الآخرون.
وهذا ما جعل حكومة الرئيس دياب تتابع عملها الإنقاذي من خلال إقرار ثلاث خطط تفصيلية مواكِبة لخطة التعافي تُعنى بالنهوض بقطاعات الاقتصاد الحقيقي (الزراعة والصناعة والسياحة) على أن يُعتمد بشكل أساسي على التكنولوجيا المتطوّرة والذكاء الاصطناعي بما يُحسّن الإنتاج كمّاً ونوعاً ويعطيه قيمة مضافة، وهذا بالضبط ما يحتاجه الاقتصاد اللبناني لكي يستعيد عافيته وقدرته على ترقية حياة المواطنين إلى مصاف الدول المتقدمة…
وهنا لا بدّ من الإشارة ولو سريعاً إلى أنّ الإنقاذ الاقتصادي لا يكون فقط من خلال إجراءات وقرارات تضبط سوق القطع، وهو ما يواجهه اللبنانيون اليوم مع انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، حيث كلّ التركيز على سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، بينما يشكل هذا الجانب جزءاً بسيطاً من الأزمة الاقتصادية في البلد، ذلك أنّ تنفيذ خطة التعافي يجعل الدورة الاقتصادية تتحرك وتسير العجلة إلى الأمام ويصبح هناك المزيد من فرص العمل أمام اللبنانيين الذين سيجدون أنّ مداخيلهم تزداد تلقائياً كما تزداد مداخيل الخزينة العامة وتتعزّز قدرتها على القيام بخطوات إصلاحية جذرية تبدو اليوم غير قابلة للتطبيق، لكن مع انطلاق الاقتصاد يصبح الناس أكثر قدرة على تحمّل بعض الأعباء التي لا بدّ منها في مسيرة التعافي.
وللتذكير فقط، فقد أوْلت حكومة الرئيس دياب اهتماماً خاصاً بموضوع التوجه شرقاً، وكلفت لجنة خاصة برئاسة وزير الصناعة الدكتور عماد حب الله لكي تتابع العروض الصينية مع الجهات المعنية سواء في سفارة الصين في بيروت أو مع الموفدين الذين يزورون لبنان لهذا الغرض، وكانت الأمور سائرة على طريق التنفيذ، علماً أنّ العروض الصينية هي عبارة عن مشاريع إنمائية تتعلق بالطرقات والأنفاق وسكك الحديد والكهرباء ومعالجة النفايات، على أساس نظام BOT (بناء، تشغيل، استرداد) هذا فضلاً عن العروض الروسية والإيرانية في قطاع المحروقات ومصافي النفط والكهرباء والقمح وغير ذلك، وكانت المساعي قائمة لإقرارها وبدء العمل بها علماً أنّ قيمة الاستثمار في هذه العروض تصل إلى نحو 40 مليار دولار خلال ثلاث سنوات.
ومعلوم الأثر الاقتصادي والتنموي الكبير لاستثمار مثل هذه المبالغ في اقتصاد بلد مثل لبنان… حيث لا يتحقق التعافي المالي والاقتصادي باعتماد ألاعيب وزعبرات مصرفية ومالية كتلك التي «ابتكرها» حاكم مصرف لبنان وحاشيته خلال السنوات الماضية، بل يكون الإنقاذ بمشاريع استثمارية تحرك القطاعات الإنتاجية الحيوية التي تحقق النمو وتوفر فرص العمل وتزيد مداخيل المواطنين والخزينة العامة، وهذا هو بالضبط مسار تحقيق التنمية المستدامة…
*خبير مالي واقتصادي