التشبيك الاقتصادي والتجدّد الحضاري: وجهان لعملة واحدة
} زياد حافظ*
للاستعمار الغربي سلبيات عديدة على الوطن العربي وعلى نخبه الحاكمة وغير الحاكمة. فمعظمها يدور في فلك الفكر والمرجعيات الغربية ويجهل أو يتجاهل موروثه الفكري والحضاري. من ضمن ذلك عدم معرفة تاريخ الوطن العربي وخاصة في ما يتعلّق بالاقتصاد. ويعود للباحث العلاّمة الدكتور جورج صليبا صاحب المؤلفات الهامة حول المساهمات العلمية العربية الإسلامية الفضل في التركيز على إنجازات الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان أوّل من صكّ العملة العربية. ولهذا الإنجاز قصّة لا بدّ من إعادة التذكير بها لأنّ معانيها تصبّ في دعواتنا للتشبيك الاقتصادي والتجّدد الحضاري.
فعلى صعيد التشبيك الاقتصادي يذكّر الدكتور صليبا أنّ المرحلة الأولى من الفتوحات العربية تركت إدارة الأمور الاقتصادية في الأقطار كبلاد الشام وبلاد الرافدين على حالتها أيّ التعامل باللغة الساسانية (لغة الفرس) في بلاد الرافدين واللغة اليونانية في بلاد الشام وخاصة في الأجهزة الإدارية التابعة للدولة العربية الإسلامية الناشئة. وكان دور المترجمين أساسياً في نقل المعلومات من الجهاز الإداري إلى أركان السلطة وخاصة الخليفة. وكانت عادة الخليفة في مراسلاته مع القيصر الرومي أو البيزنطي أن يبدأ رسالاته بالبسملة والسلام على سيد المرسلين إلا أنّ ذلك أغاظ القيصر الرومي فهدّد بقطع التعامل معه وخاصة في استعمال النقد البيزنطي. كذلك كان الوضع في ما يتعلّق ببلاد الرافدين فكان لا بدّ من “توحيد” الدواوين، أيّ الجهاز الإداري عبر تعريبه. وهذا التعريب التوحيديّ فرض إنشاء عملة غير خاضعة للسيطرة القيصرية فكان قرار في صكّ الدينار العربي في سنة 695 م. وقرار صك العملة تمّ بالتعاون مع خالد بن يزيد بن معاوية الذي كان عالماً في الكيمياء فأوجد النسب بين الذهب والمعادن الأخرى في صك الدينار.
صك العملة وحّد الاقتصاد في بلاد الرافدين وبلاد الشام. لن يغيب عن القارئ أبعاد ذلك القرار فيما لو قفزنا إلى القرن الحادي والعشرين وحالة التشرذم الموجودة بين الأقطار العربية. صحيح أنّ بنية الاقتصاد في العصر الأموي كانت أقّلّ تعقيداً مما هي عليه اليوم في المشرق العربي إلاّ أنّ العبرة ما زالت صحيحة. فالعملة الموحدة هي انعكاس لاقتصاد موحد، والاقتصاد الموحد يأتي على يد سلطة موحّدة. من هنا نرى الترابط بين الوحدة السياسية والوحدة الاقتصادية. لكن إلى أن تتفق النخب العربية على توحيد قياداتها السياسية، وطريق تلك الوحدة قد يكون طويلاً لتذليل العقبات المصطنعة التي تحول دون قيام الوحدة، فليس هناك من مانع من توحيد الاقتصادات لأنّ المنفعة (او الربح) سيكون للجميع. لكن نقول أكثر من ذلك حيث إذا كان الربح أو المنفعة من إقامة وحدة اقتصادية تمهيداً (أو تلازماً حسب الظروف) لوحدة سياسية فإنّ الوحدة الاقتصادية شرط ضرورة وبقاء حتى للكيان. فالوحدة مكوّنة من كيانات يجب الحفاظ عليها ولا سبيل للحفاظ عليها إلاّ بالوحدة لا الداخلية فحسب بل العربية. وهنا قد يُفتح الباب لنقاش حول الشكل الدستوري للوحدة غير أننا في هذه المرحلة غير معنيين بذلك لأنّ الوحدة هي الهدف والأساس وليس شكلها.
فالمشروع النهضوي العربي الذي نرفعه ونحمله في عملنا وخطابنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والأخلاقي يلحظ الحفاظ على الاستقلال الوطني. هذا الاستقلال الوطنيّ لن يتحقّق عبر التحالفات الخارجية التي هدفها من وجهة نظر الأنظمة القائمة الحفاظ على النظام القائم بل عبر الوحدة الداخلية بين النخب الحاكمة ومكوّنات المجتمع عبر ما نسمّيه بالكتلة التاريخية، وعبر الكتلة الجغرافية والموروث الثقافي والسياسي والاقتصادي الذي يرافقها. فصيانة الاستقلال الوطني لن تتحقّق إلا مع الاستقلال الاقتصادي وخاصة عن تبعيات الحقبة الاستعمارية وحقبة العولمة. لن يتحقق الاستقلال الوطني إلاّ عندما تصبح التجارة البينية بين الدول العربية ركيزة اقتصاداتها وليست التجارة مع الغرب. فالسوق العربية المشتركة هي الحلّ الوحيد لإيجاد فضاء اقتصادي يساهم في التنمية المستقلة عن الإملاءات الخارجية وتتوافق مع متطلّبات المجتمعات العربية.
أشكال التشبيك، وشكل الوحدة من مهام الإبداع العربي المطلوب. والإبداع مكوّن أساسي للتجدّد الحضاري ومن هنا نرى العلاقة العضوية بين التشبيك الاقتصادي الذي يمهّد للوحدة وبين الإبداع المطلوب لتحقيق ذلك. ونضيف أنّ الإبداع قد يجد جذوراً في الموروث الثقافي والتاريخي. فوحدة العملة كعامل في إنجاز وحدة الاقتصاد درس لا يجب أن يغيب عن بالنا. والحقبة الاستعمارية عملت على تجهيل الموروث الثقافي لهذه الأمة وتقوم به النخب العربية المتغرّبة. فالتجدّد الحضاري العربي يبدأ في استذكار ذلك الموروث الثقافي الذي لا يُختزل بالموروث الفقهي كما يريدون إظهاره. ونذكّر هنا أنّ معظم الفقهاء كانوا أيضاً من أصحاب العلوم النظرية والتطبيقية وفقاً لمروحة واسعة من الرياضيات إلى العلوم الطبيعية إلى الطب إلى علوم الفلك. الإبداع يبدأ عندما تعرف نفسك وهويتك وتاريخك.
ولا تجدّد حضارياً في حال التجزئة التي نعيش فيها الآن، وبالتالي تصبح مهمة التشبيك الاقتصادي مهمة حيوية للوحدة وللتجدّد الحضاري. غير أنّ هناك من يعتقد أنّ بإمكان الكيان المستقلّ أن يستمرّ دون رابط الوحدة وكأنّ الوحدة تهديد لمصالح النخب الحاكمة. نقول إنّ الكيان المستقل الذي أفرزه الاستعمار حالة مصطنعة ضعيفة لا يستطيع البقاء في عصر التكتّلات الاقتصادية والسياسية التي نشهدها في العالم المتحوّل. الغرب يحتضر حتى لو كانت حال الإنكار عند النخب العربية المتغرّبة تسيطر على العقول.
دراسة التاريخ مهمة في المسعى للتجدّد الحضاري. في هذا السياق نربط مرحلة التراجع للحضارة العربية الإسلامية مع مرحلة التراجع الاقتصادي الذي بدأ في القرن السادس عشر عندما اكتشف الغربيون طريق الهند والصين عند اكتشاف رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا. تحوّلت التجارة من البرّ أيّ طريق الحرير القديمة إلى التجارة البحرية. كانت الأقطار العربية والإسلامية تستفيد من تداعيات التجارة عبر طريق الحرير وعندما تراجعت أهمية ذلك الطريق تراجعت تلك الأقطار على الصعيد الاقتصادي ما سمح ببروز التناقضات الداخلية التي استغلّها المستعمر الأوروبي. ما نريد قوله هنا إنّ التقدّم الاقتصادي هو الذي يدعم النهضة العربية وذلك التقدّم لا يمكن أن يحصل إلاّ عبر الوحدة.
وهنا تكمن الأهمية الاستراتيجية لطريق الحرير الجديدة التي تطلقها الصين عبر مبادرتها في الحزام الواحد والطريق الواحد. فاقتصادات الأقطار الآسيوية ستنتعش بعد العزلة التي فرضتها الهيمنة الغربية على البحار والتجارة العالمية. وفعّالية طريق الحرير الجديدة لن تستقيم إلاّ عبر التكتّلات الجغرافية والسياسية التي تحميها. فمنظمة شنغهاي ومنظمة الوحدة الاقتصادية الأوراسية تتكاملان وتتبنيان مبادرة الطريق الواحد. وبما أنّ التخصيص لآسيا غير مفيد فلا بدّ من توسيع رقعة الكتلة فكانت منظومة بريكس.
فإين العرب من كلّ ذلك؟ الالتحاق المنفرد بالمنظومة الجديدة ليس سلبياً، ولكن قد تكون له فعّالية أكبر إذا كان ضمن كتلة عربية موحّدة. فهل الالتحاق بكتل خارجية متنوّعة التكوين أسهل من الوحدة المتشابهة التكوين؟
*عضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي
والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.