نموذج 17 تشرين لا ينفع في سورية
ناصر قنديل
يكثر هذه الأيام حديث الإعلام العربي والغربي المؤيد لواشنطن عن سيناريو جديد في سورية. وفيما تتم الإضاءة المبالغ بها على حشود عسكرية أميركية تمهيداً لعمل عسكري، يعرف الأميركيون أنه مقامرة غير مرغوبة، يبدو أن الحديث عن العمل العسكري نوع من الحرب الإعلامية لخلق توازن نفسي لدى الميليشيات المدعومة من واشنطن أمام بدء المقاومة السورية للاحتلال الأميركي واحتمالات تصاعدها، لكن السيناريو الأميركي الحقيقي يستند إلى الرهان على هذه الميليشيات شمالاً وجنوباً وعلى الحدود السورية العراقية من جهة، وعلى تنظيم داعش وتسهيل تمدّده في البادية من جهة أخرى، بحيث يتم شطر سورية إلى شرق وغرب بعد فشل شطرها الى شمال وجنوب، ويتم تضييق منطقة سيطرة الدولة السورية الى محافظات حلب وحمص وحماة ودمشق إضافة الى طرطوس واللاذقية. وهذا ليس إلا الجزء العسكري الأمني من السيناريو الذي يفترض أن يستند الى ما تسمّيه جماعة واشنطن بنموذج تشرين اللبناني والعراقي في سورية، والمقصود انفجار اجتماعي تحت تأثير تراجع القدرة الشرائية لليرة السورية، يطال المحافظات التي تشكل قاعدة سيطرة الدولة السورية.
لا يناقش السوريون المؤيدون لدولتهم مشهد ما يُسمّى بانتفاضة السويداء، من زاوية عدم أحقية التحرك رفضاً للواقع المعيشي، لكنهم يتساءلون كيف يعقل لمواطن سوري يشكو من انقطاع الكهرباء أن لا ينتبه أن القوات الأميركية تحتل منابع النفط والغاز وتحرم منها عامل تشغيل الكهرباء وتسرق هذه الثروات علناً وتبيعها، وتتقاسمها مع الميليشيات المناوئة للدولة. وبالتالي إذا كان هناك مما يجب اعتقاده في الأداء الحكومي فإن السؤال هو، هل يجوز تصديق الدوافع العفوية للحراك في السويداء ودرعا، حيث نفوذ جماعات قاعدة التنف واضح وليس موضع شك أو نفي أو سؤال، فيما لا ترفع بين اللافتات الكثيرة المناوئة للدولة لافتة واحدة تعتب على الأميركي الحنون والصديق أو الحليف لسرقته للنفط والغاز؟ ومعلوم لدى كل السوريين أن استعادة الدولة ثروات النفط والغاز يفعل فعلاً سحرياً في تأمين الكهرباء والمشتقات النفطية بأسعار زهيدة، التي يشكو السوريون أكلافها الباهظة، ويوفر على خزينة الدولة استنزاف العملات الصعبة لتأمين القليل من الفيول والمشتقات النفطية، وهكذا تتنفس الليرة السورية الصعداء؟
في المحافظات المساندة للدولة والتي تقع تحت سيطرتها، غضب من الوضع المعيشي، وليس بعيداً أن يطلق حراكاً شعبياً، لكن هذا الحراك ستكون شعاراته، أيّها الأميركي أوقف سرقة ثرواتنا، ونفطنا وغازنا لنا، وكل الدعم للمقاومة السورية، وسيأخذ السوريون عن النموذج اللبناني معادلة السيد حسن نصرالله، تريد أن تقتلني؟ إذن سأقتلك، وتمسكني من يدي التي توجعني وهي معيشتي فأمسك بيدك التي توجعك وهي دماء جنودك وأمن قواتك.. وبالتوازي لا أحد ينكر حجم الإعداد للإرباك الأمني سواء عبر داعش او عبر ميليشيات التنف، لكن السؤال هو ماذا تغيّر بين وضعية الأميركيين وجماعاتهم ومنها داعش، وفي وضع سورية وحلفائها، ولمصلحة مَن تغيرت الأوضاع؟
بين أعوام 2014 و2018 راهن الأميركي على الجماعات الإرهابية وكان احتلاله قائماً خلال هذه الفترة تحت ستار مواجهة داعش، وكان تنظيم داعش في ذروة الصعود، والحلف الإقليمي المناوئ للدولة السورية يضمّ تركيا ودول الخليج، بكل ما لدى الفريقين من إمكانات، عسكرية وتعبوية وإعلامية ومالية. وكان الجيش السوري منهكاً من معارك حلب والبادية والغاب وأرياف حمص وحماة، وكان الاستنزاف في قلب دمشق ومن حولها في الغوطة والجنوب، وكان العراق ظهيراً كاملاً سواء عبر سيطرة داعش على المحافظات الملاصقة لحدود سورية، أو عبر سيطرة القواعد الأميركية على طرفي الحدود، ورغم ذلك فإن سورية وحلفاءها، نجحوا بهزيمة المشروع الأميركي، وتحرير أغلب المحافظات السورية، أما اليوم فقد تفرّق حلفاء واشنطن، فتركيا إذا كانت مستعدة للقتال، فإن معركتها مع “قسد” المدعومة من الأميركيين، ودول الخليج أدركت أن تورطها في الحرب على سورية كان خسارة كاملة. وإذا كانت تراعي الضوابط الأميركية في درجة الانفتاح على سورية، فإن زمن انخراطها السياسي والمالي والإعلامي والأمني ضد سورية انتهى. وداعش الذي تلقى هزيمة مدوية مثله مثل كيان الاحتلال الذي يريد ترميم صورة الردع بعد الهزائم. أما حلفاء سورية فزادوا قناعة بأن محورية موقعها في المعادلات الدولية والإقليمية أصبحت أكثر وضوحاً، بدليل بقاء القوات الاميركية في سورية رغم تهربها من القتال في أوكرانيا وانسحابها من أفغانستان، وزادوا قناعة بأن الباب لكسر الحصار وإسقاط أخطر حلقات المشروع الأميركي، الذي يقف وراء كل المصائب التي تعصف بدول المنطقة، مشروط بهزيمته في سورية هزيمة كاملة، بدل الرهان على دفعه للانكفاء عبر استمالة تركيا كما كان عنوان الجهود خلال الوقت الفاصل بين 2018 و2023.
لا يستطيع أحد استبعاد فرضية أن يكون لدى الأميركيين أوهام حول إمكانية نجاح حلقات هذا السيناريو الجهنمي لسورية، لأن سورية مهمة لهذه الدرجة في موازين العالم والمنطقة، ولأن الأميركي الذي قالت الأوبزرفر عنه إنه مصاب بجنون العظمة ويعيش في أوهامه لم يدرك بعد أن القرن الأميركي قد انتهى، لكن لا أحد يستطيع الزعم بأن الأميركي مستعدّ لنزف الدماء وتحمل تبعات ذلك، بينما الدولة السورية وحلفاؤها مستعدّون، والمقاومة السورية التي تلقى دعمهم قد بدأت ولن تتوقف حتى رحيل القوات الأميركية.