عن اللامركزية والصندوق الائتماني
ناصر قنديل
يشكل عنوان اللامركزية وعنوان الصندوق الائتماني محورين رئيسيين للحوار الذي يدور بين حزب الله والتيار الوطني الحر، كمدخل اتفاق ينتقل بموجبه التيار الوطني الحر الى ضفة التصويت لصالح المرشح الوزير السابق سليمان فرنجية، والأمر ليس هامشياً ولا شكلياً ولا بسيطاً، بل لعله الأمر السياسي الأهم في حياة لبنان السياسية راهناً. فهو تقديم إثبات على أن الحياة السياسية الوطنية ليست عقيمة، وأن اللبنانيين ليسوا معلقين على حبل الانتظارات لما يقرره الخارج، وأنهم قادرون على اتخاذ مبادرات إنقاذية لبلدهم، ويملكون إرادة وطنية قادرة على صناعة الحلول. هذا مع إدراك أن الحوار بين الطرفين ليس الا مقدمة لحوار أوسع يجب أن يشمل قوى رئيسية هي حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي وتيار المردة وكتلة الاعتدال الوطني، لكن يبقى أن نتائج الحوار الثنائي بين الحزب والتيار لن تصل إلى الإيجابية المرجوة إلا إذا كان نضجها يؤهلها للتحوّل إلى اتفاق وطني جامع.
هذا الباب لملء الشغور الرئاسي يشكل اليوم الباب الوحيد الواقعي. والبديل هو فراغ مديد قد يمتد الى موعد الانتخابات النيابية، بسبب التوازن السلبي الناتج عن الاستعصاء بين كتلتين، واحدة تخوض مسعى لتجميع أغلبية رخوة وهشّة، لكنها كافية للانتخاب عبر البحث عن تقاطعات ظرفية كما حدث مع ترشيح الوزير السابق جهاد أزعور. ومشكلة هذا المسعى أنه يصطدم بوجود كتلة صلبة مقابلة قادرة على تعطيل النصاب وتملك الإرادة والقرار لفعل ذلك. وبالمقابل وجود فرصة تأمين نصاب كافية إذا شاركت هذه الكتلة بتأمينه، حيث لا يملك الخصوم قدرة تجميع الثلث اللازم من أجل تعطيل النصاب، وسقف ما تجمعه هو الـ 31 نائباً الذين وقعوا رسالة الاحتجاج للمبعوث الفرنسي جان ايف لودريان، لكن الكتلة الصلبة التي صوّتت لصالح فرنجية تعجز عن تأمين الغالبية لمرشحها كي تستثمر موقعها الفاعل في تأمين النصاب، وقيمة الحوار بين الحزب والتيار أنه يفتح الطريق لجلسة انتخابية نصابها مؤمن، بمشاركة كتل ونواب لن ينتخبوا فرنجية، لكنهم يعطون الأولوية لانتخاب رئيس، أو أنهم ينتظرون توافر تغطية كتلة مسيحية كبرى لانتخاب فرنجية كي ينضمّوا الى التصويت لصالحه، ومع النصاب المحقق، وعبر إضافة أصوات التيار إلى أصوات الذين انتخبوا فرنجية تتأمن الأغلبية اللازمة لانتخابه وإنهاء الفراغ.
التحريض الطائفي والتربّص بحزب الله تحت عنوان تصويره عدواً للمسيحيين، تعبيران عن إدراك الفريق المتضرّر من هذا الحوار لأهميته، والسعي لمحاصرة التيار بجدار صدّ مسيحي يقطع عليه طريق المضي بالحوار حتى الاتفاق، وقد كان رئيس حزب القوات اللبنانية واضحاً عندما استخلص من حادثة الكحالة شعاراً، هو دعوة النائب جبران باسيل الى وقف الحوار مع حزب الله، والغيظ ليس ناجماً عن الحسابات التي تقول بأن نجاح الحوار سيفتح الفرصة لوصول فرنجية الى الرئاسة، بل أيضاً لأن المناخ الدولي والإقليمي العاجز عن إنتاج مبادرات تكسر الجمود الرئاسي، ليس في وضعيّة هجوم، لأن المعادلة التي حكمت التفاوض على ترسيم الحدود البحرية، والتي تقول إن حزب الله مستعد للذهاب الى الحرب عندما تحجب حقوق وطنية عن لبنان لا تزال سارية، وحماية شرعية رئيس منتخب دستورياً لا تقل أهمية عن حقول النفط والغاز. والمعادلة الدولية هي الاستعداد لدفع الفدية منعاً للحرب، كما حدث في ترسيم الحدود البحرية، وفقاً لكلام عاموس هوكشتاين.
في المضمون، اللامركزية جزء من اتفاق الطائف، لكنها محاطة بمجموعة متمّمات وشروط ومقاربات. فهي جزء من إصلاحات اتفاق الطائف، أي مجلس نيابي خارج القيد الطائفي ومجلس للشيوخ والهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، وهي مشروطة بتقسيم إداري لا يعتمد خطوط التقسيم الطائفية، ولا مشكلة في أن تكون لديها تبعات مالية في تحقيق الموارد وفي موازنات الإنفاق، لكن بشرط عدم تحول الهيئات اللامركزية الى أطر تأخذنا الى الفدرالية والتقسيم. واتفاق الطائف أوجد الحل، وهو مجالس منتخبة للأقضية والمحافظات، تترجم اللامركزية، لكن يترأسها القائمقام والمحافظ كممثلين للسلطة المركزية. وإذا اعتمدنا الأقضية الحالية والمحافظات الحالية كأساس لتطبيق اللامركزية وفق قاعدة مجالس منتخبة على مستوى الأقضية والمحافظات يترأسها القائمقام أو المحافظ، لها مواردها وموازناتها، وتغذيها السلطة المركزية عندما تكون مواردها أقل من حاجاتها، كترجمة لبند الإنماء المتوازن، يكون تطبيقاً لما تمّ الاتفاق عليه في الطائف.
الصندوق الائتماني، حاجة ملحّة لتطوير الاقتصاد والنهوض بالقطاعات التي تملك الدولة أصولها وحقوق تشغيلها، لكنها لا تملك المال اللازم لتطويرها. وهذا يعني أن الصندوق لا يجوز أن يتملك الأصول بل حقوق امتيازات استثمار الأصول والحقوق لمهل زمنية محددة في كل مجال. وفي مرحلة الرئيس فؤاد شهاب أنشئت شركة انترا وفقاً لهذا المفهوم، فكانت إنجازاتها الكبرى في عائدات كازينو لبنان وشركة طيران الشرق الأوسط، ولهذا تم استهدافها، لكن الصندوق لأهميته الحيوية يحتاج الى مقاربة تشكيل إدارته بمعايير تترجم الشراكة الوطنية دون الوقوع في المحاصصة. وهذه معضلة حساسة وخطيرة صعبة التحقيق، لكنها غير مستحيلة عندما تخلص النيات ويتقدّم السعي للخير العام على الحسابات الفئوية والطائفية.