مدارات القرار الباكستاني والوعي العربي
فارس رياض الجيرودي
جاء القرار الباكستاني برفض المشاركة في عاصفة الحزم السعودية مفاجئاً وصاعقاً لكثيرين في العالم العربي كونه أتى في لحظة لا تزال فيها آلة الإعلام القطرية السعودية تغرق الجزء الأوسع من الرأي العام العربي مع نخبه في تحليلات سياسية مشتقة عن حسابات عالم الأحادية القطبية الآفل، وفي سرديات وأحقاد وأوهام مذهبية نبشت من مقابر الكتب الصفراء، الغاية منها تفسير الصراعات السياسية في عالم اليوم بما يؤمن حشد الرأي العام العربي وفق ما يناسب أهواء ونزوات أمراء الأسر الحاكمة في مشيخات الخليج المستولية على ثروات العالم العربي وعلى الجزء الأكبر من قراره.
لذلك يواجه المواطن العربي في الأعم الأغلب صعوبة في إيجاد مكان ضمن خريطته الإدراكية لأحداث كالقرار الباكستاني، ومن قبله لإعلان الاتفاق النووي الإيراني مع الدول 5+1، حيث تتشكل الخريطة الإدراكية التي يفسر وفقها الإنسان العربي أحداث السياسة ومتغيراتها، من تأثير قوة واحدة مهيمنة هي القوة الأميركية، تلعب إلى جانبها روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي دور الكومبارس التي لا يمكن أن يأخذ لنفسه دوراً أكبر مما تعطيه إياه الدولة الأميركية العظمى نفسها، وذلك عندما تقرر لأسبابها الخاصة الانكفاء أو التواطؤ معه على دور ما ضمن ظرف محدد وموقت.
وانطلاقاً من تلك الرؤيا جرى التركيز في الإعلام العربي الذي يمول خليجياً خلال سنوات الصراع في سورية على الدور الروسي وعلى الفيتو الروسي، وتم تجاهل الفيتو الصيني واعتباره تحصيل حاصل ما كان ليكون لولا الفيتو الروسي، وللسبب نفسه فسر اقتراب إيران من إنجاز اتفاقها النووي مع أميركا على أنه تخل عن مواقفها وبيع لحلفائها، والتحاق بالركب الأميركي، فالقوة الأميركية وفقاً للوعي الجمعي العربي لا يمكن أن تقهر أو تفرمل أو أن تعرف حداً، وبالتالي يكون السبيل الوحيد لتجنب السحق تحت عجلاتها هو التكيف مع المتطلبات والمصالح الأميركية، والعمل على تجنب الاصطدام بها.
لكن خريطة الصراعات وموازين القوى العالمية كانت قد شهدت خلال العقدين الأخيرين تغييرات وتعديلات وتغييرات كثيرة جعلت الرواية المسوقة عبر الإعلام العربي بعيدة من الواقع، بقدر بعد الرواية البديلة التي تتحدث عن عودة العقارب إلى زمن الحرب الباردة، فبالإضافة إلى الخطر الجدي الذي يواجهه النفوذ الأميركي بسبب استعادة التوزان الروسي، تواجه أميركا صعود القدرة الصناعية الصينية الذي نتج منه تمكن الصين من مراكمة ما مجموعه حوالى 4000 آلاف مليار دولار من القطع النقدي كنتيجة لتسويق المنتجات الصينية عبر العالم، كما تفوقت الصين في العام الماضي ولأول مرة منذ 2003 على الولايات المتحدة كجاذب أول للاستثمارات الأجنبية في العالم بواقع استثمار بلغ 128 مليار دولار مقابل 86 مليار دولار فقط جذبتها أميركا، وهي بفضل ذلك كله تتهيأ للبدء بتأسيس نظام بنكي إقليمي وعالمي جديد خاص بها عبر إعلان تأسيس البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية برأسمال 100 مليار دولار تساهم الصين بنصفها، بالإضافة إلى عدد من بنوك الاستثمار الإقليمية والدولية التي يتوقع أن تكون بديلاً للإقراض من بنك النقد الدولي المتحكم به من قبل أميركا، والذي استخدم طويلاً لدعم استراتيجات النفوذ والهيمنة الأميركية في العالم، كما أعلن الرئيس الصيني جملة من الاستثمارات الهادفة إلى إحياء طريق الحرير القديم، وتحويله إلى مجموعة معابر تمد شرايين الصين بالطاقة وتنقل منتجاتها إلى الأسواق العالمية في الوقت ذاته، ومن هنا جاء الرد الأميركي من خلال محاولة محاصرة الصين وتخريب مساعيها للحصول على إمدادات آمنة ومستمرة من الطاقة، وعلى منافذ التصدير لمنتجاتها، وكانت الحرب لإسقاط الدولة الوطينة السورية أحد تجليات هذه الاستراتيجية الأميركية الجديدة.
القرار الباكتساني الأخير بالانكفاء عن المشاركة في حرب السعودية سبقه جملة قرارات استراتيجية أخرى، مثل تسليم إدارة ميناء غوادار الباكستاني الاستراتيجي لشركة «تشاينا أوفرسيز بروتس هولدينغ» الصينية عام 2013، حيث يقع غوادار قرب مضيق هرمز معبر ثلث التجارة النفطية البحرية العالمية، إضافة إلى الموافقة على خطة إيرانية ـ صينية لمد أنبوب غاز إيراني يعبر الأراضي الباكستانية ليمد الصين باحاجاتها من الغاز الطبيعي.
يقول ريتشارد هاس، أحد أكبر المحللين السياسيين في أميركا اليوم: «إن عالم اليوم لم يعد خاضعاً لسيطرة قوة مهيمنة واحدة أو حتى قوتين مهيمنتين بل هو أضحى أشبه بعالم النصف الثاني من القرن الثامن عشر حيث لكل إقليم قوة عظمى ضمن حدوده»، وباكستان وجدت نفسها بين قوتين صاعدتين الصين شرقاً، وإيران غرباً التي تمكنت من إثبات المكانة وتحقيق النهوض التكنولوجي والسياسي على رغم العقوبات والمؤامرات الغربية عليها، ولذلك قررت باكستان أن تجد مكاناً لها مع القوى الصاعدة في آسيا بدل الاستمرار في لعبة الالتحاق بالسعودية وأميركا، تلك اللعبة الشيطانية التي لم تجلب لها سوى حصاد التطرف والإرهاب الناهش في لحم الباكستانيين والمستنزف لقدراتهم، يحدث ذلك فيما المنطقة العربية لا يزال غارق أغلبها في عالم افتراضي من صراعات الملل والاثنيات، حيث يتهم من يقاوم ليجد لنفسه مكاناً بين الأمم بالنفاق أو بالسذاجة في أحسن الأحوال، بينما تصور المعارك والصراعات العبثية بين الطوائف والاثنيات والقبائل على أنها معارك الشرف والبطولة.