ست على ست
} د. علي أكرم زعيتر*
إيران، السعودية، الإمارات العربية المتحدة، مصر، الأرجنتين، إثيوبيا، ست دول، لها ما لها من ثقل إقليمي ودولي، انضمّت قبل أيام إلى بريكس.
دول أخرى تحاول أن تحجز لها مقعداً على مدرجات بريكس. بعضها وصل به الأمر إلى حدّ استجداء الصين وروسيا، الدولتين الأكثر تأثيراً داخل المجموعة.
حجم التهافت على الانتساب إلى بريكس كبير، وهناك من يصف هذا التهافت بتسونامي دولي يتجه شرقاً وجنوباً ليجرف معه كلّ مخلفات الغرب وعالم الشمال، من استعمار، وصندوق نقد، وبنك دولي، وصولاً إلى الدولار وسويفت وسواها.
فما أسباب هذا التهافت؟ وإلى أيّ حد ّيمكن أن تلبّي بريكس طموحات الدول التي انتسبت والتي تأمل الانتساب إليها؟
بحسب وكالة بلومبرغ الألمانية، فإنّ الرغبة المتزايدة لدى دول العالم في التخلص من الأحادية القطبية الأميركية، والتحوّل إلى نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، هي أحد أهمّ الأسباب التي حدت بهذه الدول إلى التقاطر على بريكس.
العالم ضاق ذرعاً بالهيمنة الأميركية، وبسياساتها اللاعادلة، وهو يتوق إلى اللحظة التي يضع فيها حداً لسطوة الدولار.
يبدو أنّ الولايات المتحدة فشلت فشلاً ذريعاً في إدارة شؤون العالم، وقد آن الأوان للتنحي جانباً، أو بالحدّ الأدنى لإفساح المجال أمام شريك جديد، ليدير العالم جنباً إلى جنب معها.
ولكن رب قائل: هناك بين دول بريكس من تجمعه علاقات ودية بواشنطن، من قبيل الهند وجنوب أفريقيا، وحتى الدول التي انضمّت مؤخراً، فإنّ بينها من لا يخفي مودّته لواشنطن، من قبيل الإمارات العربية المتحدة والسعودية والأرجنتين ومصر، فأنّى لمنطق بلومبرغ أن يستقيم مع الواقع؟
الحقَّ نقول، قد لا تتفق دول بريكس على موقف موحد من أميركا، فبينها من هو معادٍ بالمطلق لواشنطن، على غرار إيران، وروسيا، والصين، ويريد أن يسدّد ضربة سياسية واقتصادية قوية لها، بأيّ ثمن، وبينها من هو متضرّر من سياسات واشنطن ويتوق للفكاك من نير العبودية لها كالهند وجنوب أفريقيا والأرجنتين، ومنها من يسعى لتنويع تحالفاته، بعدما فقد ثقته بالولايات المتحدة، كالسعودية والإمارات ومصر.
الموقف من الولايات المتحدة، ليس موحداً كما نرى. هناك تباين كبير بين مواقف الدول الأعضاء، ولكن يبدو أنّ هناك قاسماً مشتركاً واحداً يجمع بين هؤلاء، وهو الرغبة في إيجاد منافس جديد للولايات المتحدة يكون قادراً على خلق هامش من الحرية يتيح لتلك الدول التحرك دون قيود خانقة.
في علم الاقتصاد، لا سيما المدرسة الليبرالية يعتبر التنافس وسيلةً نافعة لتحسين جودة السلع والبضائع المطروحة في السوق، وبالنسبة للتكتلات الاقتصادية العالمية كمجموعة الدول السبع (أميركا، بريطانيا، ألمانيا، فرنسا إلخ…) ومجموعة بريكس فإنّ احتدام المنافسة بينهما من شأنه أن يدفع بهما إلى تقديم أسخى العروض من أجل استقطاب المزيد من الدول. هذا ما يبدو على أيّ حال، ولكن قد لا يكون صحيحاً بالضرورة. الأمر يحتاج إلى تحليل اقتصادي من نوع آخر، نوع أكثر تخصصاً.
مصر التي لطالما كانت تعاني من تبعات الارتهان للمساعدات الأميركية دفعت مؤخراً ثمناً باهظاً نتيجة تقلب أسعار الدولار مقابل عملتها المحلية ”الجنيه“. لو أتيح لمصر من قبل أن تقيم جسر عبور اقتصادي بينها وبين دول بريكس لما تكبّدت عملتها كلّ تلك الخسائر، ولما أقفلت بورصة القاهرة على خسائر هائلة طوال سنة من اليوم.
ولعلّ خير دليل على ما نقول، ما حدث قبل أيام، فبمجرد أن أُعلن قبول عضويتها في بريكس انقلب حال الأسهم المصرية رأساً على عقب وعادت العافية إلى الجنيه، حيث سجل الدولار أول من أمس انخفاضاً بمقدار خمس جنيهات للدولار الواحد (39 جنيهاً للدولار الواحد بعدما كان 44 جنيهاً لكلّ دولار).
هذه الفرصة الذهبية ما كانت لتتاح لمصر لولا الحرب الأوكرانية الروسية، فقبل انخراط روسيا في الحرب الأوكرانية لم تكن متحمّسة بما يكفي لضمّ دول بوزن مصر وأثيوبيا وحتى إيران. فهذه الدول ـ خلا إيران ـ لا تملك ما يؤهّلها للانضمام إلى نادي الأقوياء. مصر بالتحديد، تعيش على المساعدات الأميركية من القمح والطحين، فما مصلحة روسيا في ضمّها؟
بلى، بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وبدء العدّ العكسي للاصطفافات السياسية، وحاجة روسيا إلى استقطاب مزيد من الدول، بغرض إحراج الولايات المتحدة وأوروبا، بحيث يبدو الأمر كأنّ البساط يسحب من تحت أقدامهما، أو أنّ دول العالم بدأت تنفضُّ من حولهما جراء الانتصارات العسكرية التي يحرزها الجنود الروس في دونيتسك ولوغانسك وعلى مختلف محاور وجبهات أوكرانيا، بات لروسيا مصلحة في دعوة دولة فقيرة كمصر إلى مائدتها.
حتى إيران التي تمتلك مقارنة بمصر ما يكفي من ثروة نفطية وغازية لكي يسيل لعاب روسيا والصين عليها، لم تكن قبل سنتين مرغوبةً في بريكس، وذلك بسبب علاقاتها المتوترة مع الولايات المتحدة والغرب، وما استتبع ذلك من عقوبات طاولتها ولاحقتها في كلّ أصقاع العالم.
كانت إيران أشبه برجل مصاب بكورونا لا يرغب أحد في الاقتراب منه أو استضافته في بيته خشية أن يناله شيء من العدوى. كان سخط الولايات الأميركية على كلّ من يتعاون أو يتعامل مع إيران كافياً لتمنّع دول العالم من التعامل معها فضلاً عن الدخول معها في تحالفات.
إنّ حاجة روسيا لاستقطاب أكبر عدد ممكن من الدول، مضافاً إليه الدعم العسكري واللوجستي الذي تقدّمه إيران للجيش الروسي في أوكرانيا، دفع بالكرملين إلى قبول عضوية الأخيرة في بريكس.
قد تكون المملكة العربية السعودية والإمارات الدولتين الوحيدتين اللتين شكل انتسابهما إلى بريكس مفارقة عجيبة، أو حدثاً غير متوقع.
هاتان الدولتان اللتان لطالما كانتا طوع يمين واشنطن قرّرتا فجأة ودون سابق إنذار أن تقيما جسر عبور اقتصادي مع عدوة واشنطن اللدود موسكو. فهل ما قامتا به كان عملاً محسوباً، أم أنه ردّ فعل غير مدروس إزاء رفض إدارة بايدن التعاون الكامل مع ابن سلمان؟
ما زالت الخمسمئة مليار دولار التي دفعها ابن سلمان للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب كـ رُشىً وإكراميات تراود ابن سلمان في أحلامه وتقضّ مضجعه. لقد سدّد الرجل ثمناً باهظاً حتى استحق بجدارة لقب البقرة الحلوب، لكنه لم يحصل على شيء في المقابل. ما زال ينتظر على أحرّ من الجمر عودة صديقه الرائع ”ترامب“ إلى البيت الأبيض في العام المقبل، وإلى أن يحين ذلك الموعد، يحاول أن يبحث جاهداً عن سيّد جديد يقيم معه عقد تبعية على مدى محدد؟
بالنسبة لإيران، قد يبدو الأمر مختلفاً كلياً، ولكن ماذا عن علاقتها المتوترة بالسعودية؟ كيف ستقيم مع ضرتها النجدية تحت سقف واحد؟ بيت بريكس لا يتسع لكلتيهما، فإما أن تضعا خلافاتهما جانباً، وإما فلا مكان لهما فيه.
هذا الأمر تكفلت به الصين، على ما يبدو، فالاتفاق الذي رعته بين الطرفين، كان وفق أكثر التحليلات ترجيحاً بطاقةَ العبور إلى الدوري النهائي المؤهّل لبريكس. لقد ضمنت الدولتان حجز مقعدين لهما، بمجرد أن وقعتا على الاتفاق.
تخيّل يا رعاك الله، لو أنّ الصين وروسيا سمحتا لطهران والرياض بالدخول إلى حرم بريكس قبل وضع خلافاتهما جانباً! لا شك، كانت اجتماعات بريكس ستتحوّل إلى حلبة مصارعة بين الدولتين الجارتين، وهذا ما تتحاشاه التكتلات الاقتصادية الباحثة عن توسعة نفوذها كـ بريكس، لأنّ من شأن عدم التجانس بين أعضائها أن يقوّض جهودها للتنمية.
منذ انطلاقتها عام 2006 وحتى الأمس القريب مثلت بريكس تحدياً كبيراً أمام واشنطن. لكن اليوم يبدو أنّ الحال قد تغيّر من سيء إلى أسوأ بالنسبة لواشنطن، فالست زادوا ستاً أخرى، ومن لم يكن يجد لنفسه موطئ قدم أو سقف يأويه أو جماعة تفتح له أذرعها كإيران بات اليوم مرحباً به في أكبر تكتل اقتصادي ناشئ ما يعني أن مصاعب أميركا ستزداد أكثر فأكثر، فهل في جعبة واشنطن ما تفاجئ به العالم، أم أنها ستكتفي بالتفرّج على هيبتها التي ذهبت حسرات؟
*مؤرّخ وباحث لغوي وسياسي