مبادرة برّي رد على العقوبات بالعقوبات
ناصر قنديل
– تبدو المعركة الرئاسية في لبنان، رغم تعدّد أطرافها المحلية والدولية، ووجود لاعبين كبار فيها، كأنها تدور بين ثنائي طرفه الأول هو رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري اللاعب الأشد مهارة وحنكة وحرفة، والممسك دستورياً بزمام المبادرة في توجيه الدعوة وإدارة الجلسات التي يفترض أن تنتهي بانتخاب رئيس جديد. وطرفه الثاني هو أميركا اللاعب الأشد قوة وقدرة على جمع اللاعبين الدوليين والإقليميين الذين تتشكل منهم اللجنة الخماسية التي تقدّمت كمظلة خارجية للاستحقاق الرئاسي. وخلال شهور كاد الرئيس بري ينجح بخلق معادلة نيابية تنتهي بانتخاب حليفه الوزير السابق سليمان فرنجية، مستنداً في مرحلة أولى على الاندفاعة الفرنسية القائمة على ثنائية فرنجية لرئاسة الجمهورية ونواف سلام لرئاسة الحكومة، ثم بقي مستنفراً بانتظار الانعطافة السعودية لتزخيم المبادرة الفرنسية، باستثمار زوال الفيتو السعودي على ترشيح فرنجية.
– في المرّتين ظهر أن معارضة التيار الوطني الحر لانتخاب فرنجية كانت عامل التعطيل. ففي المرة الأولى كان تأييد التيار ضرورياً لتأمين الأغلبية اللازمة لانتخاب فرنجية. وفي المرّة الثانية بعد زوال الفيتو السعودي على فرنجية، ظهر رفض التيار للسير بانتخاب فرنجية عامل تعطيل لانضمام من كان يأمل بري بانضمامهم إلى مؤيدي فرنجية بزوال الفيتو السعودي، الذين قالوا إنّهم لن يسيروا بانتخاب فرنجية دون تغطية كتلة مسيحية نيابية كبرى، وجاءت جلسة 14 حزيران وظهور التقاطع على ترشيح جهاد أزعور والسعي الجدي لتأمين 65 نائباً لانتخابه، ليكتشف بري أن الموقف الأميركي الذي كان يظهر عدم ممانعة بانتخاب فرنجية، قد لعب عبر دولة خليجية دوراً محورياً في تشجيع التيار الوطني الحر على رفض السير بانتخاب فرنجية بتقديم تعهد بإقناع تحالف تأييد ميشال معوض بملاقاته في منتصف الطريق على مرشح مشترك من ضمن اللائحة التي يقدمها التيار. وهكذا ولد التقاطع على جهاد أزعور.
– ظهر لبري أن الأميركي الذي كان وراء التقاطع، سحب الفرنسي والسعودي من المشهد الرئاسي، ووضع يده على الملف، وربطه بملفين هما التجديد لقوات اليونيفيل ومشروع تعديل تفويض القوات، وملف التنقيب عن النفط والغاز، لذلك حصر بري معركته بإسقاط خطة تجميع 65 صوتاً لمرشح التقاطع، وتمرير الوقت حتى يظهر للتيار أن هناك مرشحاً واحداً إذا أسقط خيار فرنجية هو قائد الجيش العماد ميشال عون، وأن مهمته في التقاطع تسهيل هذه المهمة، التي سوف يكون في رأس المتضررين منها. وأوصل لرئيس التيار عبر الحليف المشترك حزب الله المعلومات والوقائع الكافية لما يجري من اتصالات لتقاطع بديل عنوانه قائد الجيش. وكان هذا المشهد مدخل عودة الحوار بين حزب الله والتيار الوطني الحر بالعناوين والشروط المعروفة، والمفتوحة على فرضية السير بانتخاب فرنجية. ثم ترك بري استحقاق التنقيب عن النفط والغاز في البلوك 9 يمر، ومن بعده استحقاق التجديد لليونيفيل، ورصد جدية السير بالتفاهمات السعودية الإيرانية وتبادل السفراء، فقرر بدء الهجوم المعاكس.
– وصلت الى مسامع بري مفردة العقوبات عدة مرات في كل المراحل السابقة، فكان يعلق عليها بأنها مزحة سمجة، لأن المعني بها يعرف أنها لا تجدي معه، بل أن لها مفعولاً عكسياً، لكنه لم يتجاهل أن هناك عقوبات من نوع آخر تتصل بالاستحقاق الرئاسي تطال فرنسا والسعودية لإقصاء دوريهما عن الرئاسة، فقرّر الرد على هذه العقوبات بالعقوبات. وعقوبات بري على الأميركيين بالواسطة، وهي تطال القوة المحورية في جبهة المواجهة الرئاسية، وركيزتها ثنائي القوات والكتائب، وقد بدأت بخطة تصعيد طائفي للجم اندفاعة الحوار بين التيار وحزب الله، من خلال خلق خطاب ووقائع تشيد جداراً من العداء المسيحي بوجه حزب الله، وتحول دون قدرة التيار على المضي قدماً في الحوار. وهنا جاءت خطة بري للهجوم المعاكس.
– مبادرة بري عملياً أعادت تظهير الكتلتين الدرزية والسنية في مجلس النواب كبيضة قبان، فردت الاعتبار للدور السعودي والدور الفرنسي ضمناً، وحررت التيار الوطني الحر من ضغط عنوانه عداء مسيحي لحزب الله، لأنها أجبرت ثنائي القوات والكتائب على مواجهة بكركي برفضهما للحوار المقيّد وفق مبادرة بري بشروط كانت بكركي قد طلبتها، بناء على طلب القوات والكتائب، أي حوار بموضوع واحد هو الرئاسة، ولمدة زمنية محددة بأيام، وعلى أن تنتهي بجلسات انتخاب متتابعة. وهكذا عاقب بري الأميركيين ووكيلهم الإقليمي الذي كان يقود في الكواليس تعطيل المسار الرئاسي خلال عام مضى، واسترجع زمام المبادرة الرئاسي.