أولى

القرم بين الحقوق الروسية والديماغوجية الأميركية

‭}‬ د. أحمد الزين
ليس غريباً على الغرب الجماعي ذلك الغرور الّذي يدفع بدوله إلى افتراض أو خلق مشكلات في الدّول والكيانات التي تصنّفها في خانة العداء لها، لتقوم بعد ذلك برعاية هذه المشكلات وتضخيمها واتّخاذ إجراءات بناء عليها، وينتج ذلك غالباً عن شعور دول هذا الغرب بقدرتها الفائقة على خلخلة وزعزعة استقرار البلدان المستهدَفة، كيف لا وقد نجح في تحقيق ذلك في العديد من دول العالم في إطار الحرب النّاعمة التي أثبتت جدواها ونجاحها حيث فشلت الحروب الصّلبة.
انطلاقاً من ذلك، وفي إطار الحرب القائمة بين روسيا من جهة، وأوكرانيا المدعومة ناتويّاً من جهة ثانية، فقد كان لا بدّ للحرب النّاعمة أن تسير جنباً إلى جنب مع الحرب الصّلبة، لذا كان البحث عن ثغرات يمكن الدّخول من خلالها إلى الاتّحاد الرّوسي بهدف إثارة المشكلات الدّاخليّة علّها تنجح فيما فشلت فيه الحرب الصّلبة إلى الآن، وفي هذا الإطار كان ما يحصل من تسليط الضّوء على تتار القرم والحديث عن معاناة هم لا يعيشونها أصلاً في شبه الجزيرة التي يحيون فيها آمنين مطمئنّين.
كما هو معروف فقد عمدت روسيا إلى ضمّ شبه جزيرة القرم بشكل رسمي إلى أراضيها عام 2014 وقد تمّ ذلك إثر استفتاء صوّتت فيه الغالبيّة العظمى من أبناء شبه الجزيرة لصالح إعادة الاتّحاد مع روسيا، وبمراعاة تامّة لما نصّ عليه ميثاق الأمم المتّحدة في هذا المجال.
وقبل ضمّ شبه جزيرة القرم إلى الاتّحاد الرّوسي، كان سكّان هذه المنطقة يعيشون تحت وطأة الخوف من الإبادة التي ما فتئ النّازيّون الجدد في أوكرانيا يلوّحون بها ضدّ كلّ النّاطقين بالروسيّة في أوكرانيا بعد استيلائهم على السّلطة فيها بواسطة دعم لا محدود من حلف النّاتو.
هكذا عادت جمهوريّة القرم لتكون جزءاً لا يتجزّأ من الاتّحاد الرّوسي، حيث يعيش قاطنوها على اختلاف انتماءاتهم العرقيّة، أو الإثنيّة، أو الدّينيّة، أو اللغويّة ناعمين بالأمن متمتّعين بكافّة الحقوق والحرّيّات، ودون تمييز بين فئة وأخرى، ناهيك عن العمل الدّؤوب الّذي تبذله الدّولة الرّوسيّة في سبيل أن تؤمّن للقاطنين في ظلّها ظروفاً اقتصاديّة تضمن التنمية الاقتصاديّة الدّائمة.
في ظلّ كلّ ذلك وعلى الرّغم منه، وتنفيذاً لما دأب عليه الغرب من خلق للمشكلات وتضخيمها يعمد نظام كييف إلى استغلال مشكلة تتار القرم غير الموجودة أصلاً، وتضخيمها بشكل مسرحي ممنهج، وذلك عبر ما أطلق عليه تسمية «قمم منصّة القرم»
لم كلّ هذا الاهتمام الذي يبديه الغرب بتتار القرم؟
واقع الحال أنّ ذلك ليس سوى نسخة ممّا نعايشه دائماً من استغلال رخيص لحقوق الإنسان في سبيل تحويل القرم إلى قضيّة حاضرة وجاهزة للاستغلال، في الوقت الّذي تعود فيه إلى روسيا بقرار لا عودة عنه.
لقد بات من الواضح جدّاً أنّ مشروع منصّة القرم مشروع مدمّر يرعاه الغرب الجماعي، لذا فإنّ روسيا تعتبر كلّ مشاركة فيه بمثابة اعتداء على وحدة أراضي الاتّحاد الرّوسي.
إنّ القرم جزء من روسيا، وتتارها كما كلّ المجموعات العرقيّة التي تقطنها مواطنون يتمتّعون بكامل حقوق المواطنة في إطار الاتّحاد الرّوسي، وهم يشاركون بشكل نشط في مختلف مناحي الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى النّهضة الحاصلة في كلّ مناطق شبه الجزيرة ومن ضمنها المناطق التي يشكّل فيها التتار أكثريّة حيث يتمّ بناء رياض الأطفال والمدارس وبيوت ثقافة وطرق وشبكات مياه وكهرباء وإمدادات الغاز… كذلك يحتفل التتار بأعيادهم التّقليديّة بحريّة غير منقوصة، وتعتبر الأعياد الإسلاميّة الرّئيسيّة في أورازا بَيْرم وعيد الأضحى المبارك إجازات وأيام عطل سنويّة.
وفي سيمفروبول انتهت هذا العام أعمال البناء في المسجد الكبير الّذي تمّ العمل على بنائه كي يكون المسجد الرّئيسي في شبه جزيرة القرم، إذ يمكنه استيعاب ما يزيد على ألفي مصلٍّ في وقت واحد وقد رعى الرّئيس الرّوسي فلاديمير أعمال بنائه شخصيّاً.
لطالما عانت الأقلّيّات القوميّة في أوكرانيا من التمييز، والقتل، والإبادة لكنّ ذلك لم يشكّل مشكلة بالنّسبة للنّازيين الأوكرانيين الجدد، لا بل إنّ كييف تبنّت منذ العام 2014 إجراءات تشجّع على الإبادة الجسديّة لهؤلاء الذين اعتبرتهم «مرفوضين» و«غير مرغوب فيهم».. حتّى أنّ «زيلنسكي» قالها بشكل صريح: «إنّ المواطنين النّاطقين باللغة الرّوسيّة في أوكرانيا هم «غير بشر» ومجرّد أفراد» مطالباً إيّاهم بترك البلاد والتّوجّه إلى روسيا، ولعلّ هذا ما دفع سكّان جمهوريّتي دونيتسك ولوغانسك الشّعبيّتين وكذلك منطقتي خيرسون وزابوروجيا بعد جمهوريّة القرم إلى التّصويت لصالح العودة إلى الاتّحاد الرّوسي إلى الأبد.
لقد تعوّد الغرب الجماعي على سياسة الكيل بمكيالين في مختلف مناطق العالم فهو يطالب بحقوق الإنسان ظاهريّا طبعا عندما يكون الأمر لصالحه، ويشجّع على قتل الأبرياء وتهجيرهم ضاربا بحقوق
الإنسان عرض الحائط عندما يكون الأمر لصالحه طبعا، ولا يخرج عن هذا الإطار بطبيعة الحال مناداته بحقوق تتار القرم ودفاعه عنهم في الوقت الذي ينعمون فيه بالأمن والأمان في أرضهم تحت رعاية الاتّحاد الروسي.
ختاماً، يوكد مصدر رفيع المستوى في موسكو أن اثارة الفتن في القرم وأوكرانيا ربما يؤدي الى رد مزلزل روسي في قلب الأب الراعي لهذه الفتن، رداً يكون درساً قاسياً لبلاد العم سام.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى