لا تستطيع روسيا إلاّ أن تكون دولة عظمى

جورج كعدي

ما لا يريد الأميركيّون فهمه والتسليم به أنّ انهيار الاتحاد السوفياتيّ والمعسكر الشرقيّ وحلف وارسو لا يعني، في أيّ حال من الأحوال، انهيار روسيا، قلب هذا العالم السابق المنهار ورأسه القائد والمدبّر. سقط الأبناء ولم تسقط روسيا الأمّ، الوالدة والحاضنة، الجذع والأساس.

في أوهام الأميركيّين وأحلامهم الإمبرياليّة الطامعة والمسعورة أنّهم يستطيعون ضرب روسيا ومحاصرتها بالأزمات أوكرانيا في مقدّمها، بعد جورجيا والتهويل بالدرع الصاروخية في بولنده، فمحاولة القضاء على الحضور والتأثير الروسيين في منطقة الشرق الأوسط، عبر سورية… وإنهاكها لحرمانها بالتالي من صفة الدولة العظمى. يحلم الأميركيّ باقتحام أسوار موسكو وتحويل روسيا إلى دولة ضعيفة، عاجزة، لقمة سائغة في فم الغرب. ويلحظ المراقبون في العالم كلّه أن هذا المشروع ـ الحلم الأميركيّ لا ينكفئ ولا يتراجع رغم الصدّ الفوريّ والحاسم، ورغم الفشل الظاهر والمتكرّر على مختلف المحاور التي أتينا عليها، من الدرع الصاروخيّة إلى جورجيا فسورية، واليوم أوكرانيا حيث تلقّى الأميركيّون وأذنابهم الأوروبيّون صفعتين إلى الوجه والقفا في القرم العائدة إلى حضن الأم الروسيّة. ورغم ذلك، يمضي الأميركيّ في الفتنة المؤامرة التي زرعها في أوكرانيا من خلال قوى فاشيّة متطرّفة وشوفينيّة عمياء هناك، ومن آخر همومه إن اندلعت حرب أهليّة ومذابح دمويّة في هذا الجزء الثمين من الاتحاد السوفياتيّ السابق. إنها النزعة الإمبرياليّة المجرمة تحوك مؤامراتها الجهنميّة في أكثر من بلد ومنطقة ونقطة استراتيجيّة حول العالم، فتدمير سورية من أفعالها الوحشيّة التي يعجز عنها الوصف تدمير شعب ووطن وحضارة ومعالم تاريخيّة… أيّ وحشيّة أكبر من ذلك؟! إلى تقسيم بلد واحد وشعب موحّد رغم التمايز الإتني، كما في أوكرانيا الضحيّة الجديدة للشيطان الأميركيّ القبيح والمجرم.

ليت الأميركيّ الواهم، المتآمر على الدول والشعوب، صغيرها وكبيرها، في الغرف المظلمة وداخل دوائر الجريمة والتآمر وأوكار الأفاعي في البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزيّة والخارجيّة والبيت الأسود وكارتيلات السلاح والنفط والبورصة والمصارف وسائر وحوش السيطرة والجشع والنهم والمال… ليته يدرك ويعي ويفهم أن الشعوب مهما صغر حجمها لبنان ومقاومته أو كبر روسيا وقيادتها الصلبة والعنيدة قادرة على التصدّي لمؤامراته وأحلامه ومشاريعه الخائبة، من نوع إخراج النفوذ الروسيّ نهائيّاً من الشرق الأوسط، وضرب سائر الأنظمة والمقاومات الوطنيّة الممانعة في منطقتنا المضطربة، والمضيّ في الجنون الإمبرياليّ والوهم الاستعماريّ إلى حدّ محاصرة روسيا وإضعافها من الأطراف ومن الداخل تمهيداً لإخضاعها وتقزيمها ونزع صفة الدولة العظمى عنها… فلا حدود للجنون والصلف الأميركيين، ولا للأوهام التي يرسمونها نظريّاً ويسعون حثيثاً إلى تحقيقها بأيّ ثمن، حتى لو كان ثمناً خياليّاً، غير واقعيّ، ومكلف على الصعد كافّة للأميركيين أنفسهم ويرتدّ عليهم كرهاً ورفضاً وانتقاداً، ومعلوم كم مرّة طرح الأميركيّون على شعبهم سؤالاً استفتائيّاً: لمَ يكرهنا العالم إلى هذا الحدّ؟!

يجب أن يعلم الأميركيّ، في الشأن الروسيّ، النقاط الآتية:

ـ سقط الاتحاد السوفياتيّ، صحيح، لكنّ روسيا ما برحت قوة نوويّة عالمية وبين القوى الأولى، وهي تملك فضلاً عن القوة النوويّة قوّة صاروخيّة بالستيّة استراتيجيّة عابرة للقارّات، وتملك أكثر فأكثر منظومة صاروخيّة متطوّرة للمواجهات الجويّة والبرّية والبحريّة، وأساطيل من حاملات الطائرات والبوارج الحربيّة، إلخ. وهي في تطوير وتحديث مستمرّين لقدراتها العسكريّة والتكنولوجيّة وليست متخلّفة عن الغرب في هذين التطوير والتحديث، والمراهنة على غير ذلك، في الجانب العسكريّ، وهم وغباء.

ـ روسيا بلاد ذات مساحة جغرافيّة هائلة، وأراض زراعيّة تكفي الحاجة المحليّة وتزيد، وثروات طبيعيّة من كل نوع، ومخزون هائل من الطاقة النفطيّة والغازيّة وسواهما. لذلك، فإنّ وهم «محاصرة روسيا» هو وهم مضحك يدعو للهزء والسخرية، فليكفّ الأميركيّون عن تعريض أنفسهم لهذين الهزء والسخرية بالكلام المتكرّر والسخيف والعنجهيّ الفارغ عن محاصرة وعقوبات وما إليها من تهديدات تضحك حتّى طفلاً في مهده.

ـ روسيا قوّة سكّانية ضخمة جداً يستحيل إخضاعها أو الحدّ من طموحها أو انتزاع الشعور الوطنيّ الحادّ من وجدانها الجماعيّ، فالشعب الروسيّ السلافيّ العريق تاريخاً وحضارة وثقافة يعي في العمق عظمة تاريخه وعراقته وحضارته الغنيّة وثقافته الأصيلة، وهو شعب حيّ، جبّار، له مآثره الكبرى والعظيمة عبر التاريخين القديم والحديث، لذا لن يكون لقمة سائغة في فم الأميركيّ وسواه، وهو يحسن الدفاع عن وجوده ووطنه وتاريخه وإرثه الحضاريّ عند الضرورة وحين تقتضي المواجهة.

ـ روسيا ليست وحدها في المواجهة، إذا فرضت عليها، إذ لها تحالفاتها الاستراتيجيّة الكبرى والثابتة، وفي مقدّمها التحالف الاستراتيجيّ مع الصين، فضلاً عن العديد من الدول الإقليميّة، المتوسّطة والصغيرة في سائر الجهات والقارّات، ومن العبث التفكير في فتح مواجهة حقيقيّة مع موسكو، أو «محاصرتها» أو «معاقبتها» فذلك كلّه يندرج في خانة الاستحالة والوهم والعبث، والولايات المتحدة الأميركيّة تحيا في الوهم والعبث وتناطح المستحيل.

روسيا لذلك كلّه، ولسواه المزيد، دولة عظمى، وستبقى أبداً كذلك رغم أنف الأميركيّ، الأمبريالي الخائب والواهم، الذي لن يطول انتظار الشعوب المعذّبة والمقهورة والمتألمة بسبب مؤامراته والحروب والفتن التي ينشرها حتى ترى «إمبراطوريته» الواهية وقد سقطت وتداعت وزال نفوذها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى